هو كرة قطن تقفز أمام عيون الثعالب والذئاب، وتحت أجنحة النسور والبوم، هو قطعة لحم مُكورة مليئة بالبروتينات والدهون والسعرات الحرارية، الأرنب سيبقى أبداً رمز البراءة والتوتر النفسي الدائم. الدكتورة البريطانية ساشا نويس تصف الأرانب بأنها مخلوقات مشدودة الأعصاب والعضلات، جاهزة للانطلاق بسرعتها الشهيرة، فور التقاط أذنها الطويلة أو عينيها الكبيرة أي جسم يتحرك، سريعة التكاثر لئلا تخسر منصبها كطبق لجوارح السماء وسباع الأرض، ولذا فلا تلام حينما تجزع من أي كائن يتحرك، أليست شخصية فريسة الوحوش الكلاسيكية؟ ولكن من منا لا يتمنى جزيرة مليئة بأرانب لا تفر من الزوار؟ جزيرة كونيشيما اليابانية حققت هذه الأمنية، ففي اللحظة التي يلمح فيها أي أرنب زائراً جديداً، تهجم عليه مئات الكرات القطنية الملونة، فكيف لهذه الظاهرة المناقضة لعلم الأحياء أن تتحقق؟

فسر اليابانيون هذه الظاهرة بأكثر من تفسير، فمنهم من قال إنه أثناء الحرب العالمية الثانية، كانت الجزيرة مستخدمة في تصنيع الغازات السامة، وللحفاظ على سرية مشاريعها العسكرية، تم تهجير جميع المواطنين مع ثرواتهم الحيوانية، عدا أرانب المختبرات. وبعد الحرب، تفادى الجميع العودة إلى الجزيرة، فامتلأت بذوات الآذان الطويلة. ومنهم من قال إن أطفال المدارس اليابانية زاروا هذه الجزيرة المهجورة في الستينيات وأطلقوا فيها مئات الأرانب. مهما كان التفسير، يبق واقع الأمر أن هذه الجزيرة لا يوجد فيها أي حيوان مفترس من بعد الحرب العالمية الثانية.

Ad

فلأكثر من ٧٠ عاما، لم يكن عند الأرانب سوى أنهار وأعشاب، ولذا فقدت جميع توتراتها لدرجة وصولها إلى حالة البلاهة، فأي أحد يدخل الجزيرة من الممكن أن يصطاد بيده ألفي أرنب، وينقذ مجاعة إفريقية بدون أي مجهود، ولكن الحكومة اليابانية، محافظة على حقوق الإنسان والنبات والحيوان، فلن يعكر أحد مزاج الأرانب في هذه اليوتوبيا الأسطورية. عادة ٨٠ في المئة من مواليد الأرانب خارج الجزيرة تموت، ومن رحمة الله، أن الأرانب مضرب المثل في مضاعفة عدد أفراد أسرتها، وكل زائر يمشي أو يجري في الجزيرة سيكون معرضاً لوفود قطنية تطارده، ولو استلقى على الأرض، تدفنه الأرانب وهي تقضم كل ما عنده من خضار أو ذرة.

إن مشهد الأرانب ذكرني بزملاء مدرستي العباقرة، الذين يمتنعون عن الاختراع والكتابة وإلقاء المحاضرات وكل أنواع الإبداع لشرخ في أنفسهم، فكم من زملائي "الأرانب" كبتوا مواهبهم حفاظاً على كرامتهم، فكل ذكرياتهم هي بطش المعلمين بكلام مليء (بتربية وتعليم) "أنتم فشلة" "العرب خيبة" "آخرتها تراجعون الوزارة". فهل بيئة الطفل الياباني احترمت عقله فأبدع وبيئتنا أرعبت تجليات عقل أطفالنا فحادت بهم إلى العدائية أو الانطوائية؟ هل سمع أحدنا بالطالبة السعودية التي اخترعت عباءة للجري لئلاً يبقى عذر للسمنة؟ أم أشغلتنا مسلسلات دراما الخائن والفاشلة؟ إن مجرد كف خشونة "ناضجي المجتمع" عن "أرانبنا"، سيجعل ما نتمناه في عالم الخيال واقعاً "قُطنياً"... ألا ندخل فردوساً أبدياً بعبادة كف الأذى؟ أبو موسى الأشعري قال: "قلنا يا رسول الله: أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده".