الحصار الشامل الذي فرضه رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي على إقليم كردستان دون الرجوع إلى البرلمان عام 2014 كان إيذانا بدخول الطرفين المتصارعين الكردي والشيعي إلى المواجهة الميدانية الحقيقية، وربما حاول المالكي عام 2008 حسم الصراع عسكريا لمصلحته عندما أمر جحافل جيشه بالتوجه نحو مدينة "خانقين" (من المناطق المتنازع عليها التي تخضع للسيطرة الكردية منذ 1991)، لفرض إرادته على المدينة بالقوة بذريعة رفع العلم الكردي على مؤسساتها الحكومية! ولكنه تراجع في آخر لحظة بسبب الضغط الأميركي ولمعرفته بعدم قدرة جيشه المهلهل على مواجهة القوات الكردية "البيشمركة" الأكثر تنظيما وتدريبا.

ووصلت الاستعدادات العسكرية من الجانبين إلى ذروتها عندما أوعز المالكي بتشكيل قيادة عمليات دجلة في مدينة كركوك من ضباط وقادة عسكريين بعثيين سابقين ممن يشملهم قانون اجتثاث البعث، ومن الذين ينتمون إلى الطائفة الشيعية على وجه الخصوص، وإزاء استفزازات المالكي لحكومة الإقليم وتهديداته المستمرة لتجربتها الديمقراطية المتطورة، شكل الأكراد بدورهم قيادة عمليات عسكرية مماثلة من جيشها الخاص المسمى "البيشمركة" أطلقوا عليها "قيادة قوات حمرين"، ووضعوها على أهبة الاستعداد لمواجهة أي خرق حدودي في المناطق المتنازع عليها تقوم به قوات المالكي.

Ad

خلاصة الأمر لم يترك نوري المالكي فرصة إلا استغلها ضد الأكراد، وحاول بكل الطرق أن ينال من تجربتهم الرائدة في الإقليم، فالإدارة الذاتية المستقلة والعلاقات الخارجية المتطورة والنهضة العمرانية المتقدمة والحركة التجارية النشيطة (حجم التبادل التجاري مع تركيا وصل في يوم من الأيام إلى أكثر من عشرة مليارات دولار!) وحالة الاستقرار الأمني المستتب التي لا يمكن مقارنتها بالوسط والجنوب من العراق، وتوجه الإقليم نحو اقتصاد مستقل وفتحه الأبواب للاستثمارات الأجنبية لإقامة مشاريعها واستقطابه للشركات النفطية العملاقة لاستخراج النفط، كل هذه الأسباب دفعت ببغداد وحلفائها من الدول الإقليمية إلى استهداف الإقليم الكردي ومناصبته العداء، فلا يمر يوم دون أن تثير بغداد أزمة مع حكومة الإقليم وتضع عقبة أمام طريقها.

وبعدما يئست من إخضاع الكرد لإرادتها الطائفية ولجمهم بالقوة، كما فعلت مع الأحزاب والعشائر السنية، ودمرت مناطقهم بالكامل في هجمة طائفية لم تشهد المنطقة مثيلا لها، ذهبت إلى خيار الحصار وقطع الميزانية عن الأكراد (لكسر إرادة وهيبة الأكراد وكردستان، فهم يريدون أن نكون على الهامش ولا نكون أصحاب قرار)، بحسب قول رئيس الإقليم مسعود برزاني.

الأزمة الحقيقية مع بغداد لا تكمن في الشخصيات السياسية أو الأحزاب بقدر ما هي مع الفكر الطائفي الذي يحاول أن يفرض نفسه على المكونات الطائفية والعرقية في العراق بالقوة، وهو ما تتفق عليه كل الأحزاب والوجوه الشيعية مع اختلاف توجهاتها ومشاربها السياسية، واستبشر كل العراقيين خيراً بتنحي المالكي ومجيء حيدر العبادي إلى واجهة السلطة، ولكن ظلت الحال على ما هي عليه من هيمنة شيعية على كل مفاصل الدولة بصورة أكثر عمقا وتوسعا وتهميش كامل للسنة والكرد في الحكم، والتفرد بالقرار وعدم إجراء أي إصلاح إداري أو سياسي، وبقاء الفساد والفاسدين في مواقعهم نفسها ودون المساس بهم، وعدم تنفيذ المادة 140 الدستورية الخاصة بالمناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل، وعدم تنفيذ المادة 119 الخاصة بإنشاء إقليم سني في مناطقهم، وازداد الأمر سوءاً في عهد العبادي عندما أنشئت قوات الحشد الشعبي من مجاميع الميليشيات الطائفية المسلحة واعتبارها جيشاً "مقدساً" من جيوش الإمام المهدي على حد قول العبادي، وأطلقت يد هذه الميليشيات الطائفية على المناطق السنية بحجة مقاومة تنظيم "داعش" الإرهابي وظلت "تهدد الشعب الكردي بشكل يومي".

ولكي لا يلقى الكرد مصير السُّنة نفسه من قتل على الهوية وتغيير ديمغرافي في مناطقهم، وإجبارهم على تغيير طائفتهم، فإنهم راحوا ينادون بالانفصال عن العراق وتشكيل دولتهم المستقلة، وهم مصرون عليها رغم كل ما يلقونه من رفض وصد إقليمي وعالمي!

* كاتب عراقي