السؤال الذي يلح على الكاتب المغترب، هو علاقته بوطنه وقضاياه، التي لم يعد على احتكاك مباشر معها، وقضايا وطن الغربة الأكثر التصاقا بحياته اليومية.

أغلب الأسماء الأدبية المهمة في العالم العربي من المحيط إلى الخليج عاشت تجارب الاغتراب والمنفى الاختياري، سواء في الانتقال بين دول العالم العربي نفسه، أو الدول الأجنبية. فالأولى لا تمنح الكاتب مساحة من الحرية، وتغلب على أسباب الاغتراب فيها الحياة المعيشية للكاتب. أما الثانية، فيمارس الكاتب من خلالها حرية أكبر.

Ad

في الحالتين يبقى الكاتب متفاعلا مع قضايا بلده الأم، ومهموما بمشاكله، التي يبقى قريبا منها قدر ابتعاده عن قضايا وطنه الجديد، ويبقى متواصلا مع أدباء بلده، وموجودا في حياتهم الثقافية اليومية.

ليست اللغة التي يحملها الكاتب معه في منفاه الجديد هي السبب الأهم في كتابة وطنه الأم وقضاياه، فالكُتاب الذين أجادوا لغة وطن المنفى، وربما درّسوها في الجامعات الغربية، استمروا في تكريس حياتهم الكتابية والأدبية للغة الأم. إنما الشعور الحقيقي بالانتماء، هو المحرك الأساس في التصاق الكاتب بقضاياه العربية وهموم وطنه وشعبه.

عاش عدد كبير من الكُتاب والأدباء في دول عربية غير دولهم، ورغم ذلك كانت مساهمتهم الأهم هي قضاياهم المحلية في أوطانهم الأم، أو قضايا اغترابهم بالبلد العربي المقيمين فيه، ومساهمات ضئيلة في قضايا الوطن الجديد.

في نهاية الأمر، للكاتب والروائي وطن ينتمي له، وطن يعترف به، وطن ينتمي لمؤسساته، سواء الرسمية أو الشعبية. وسواء اختار الهجرة أو البقاء، فليس لأحد الحق في انتزاع هويته وانتمائه لهذا الوطن، وإن لم يكن مساهما الآن مباشرة في بنائه.

المأساة الحقيقية حين يعيش الكاتب العربي منفيا من وطن لا يعترف به، وطن ينظر له بعين الريبة والشك. وأقصد بالوطن هنا مجموعة كبيرة وقطاع مهم من مثقفي هذا الوطن وزملاء الكاتب الذين يرون أن أي كتابة تنتقد هذا الوطن هي احتكار خاص بهم، وليست حقا مشتركا مع سواهم.

أغلب الكُتاب البدون في الوطن العربي، وليس في الكويت فقط، يعيشون غربتين لا يعرفون أيهما أقسى من الأخرى. فلا الوطن الأم يضمهم لكيانه، وإن شكليا، ولا هم يتفاعلون مع بلد غربتهم وينسلخون من جلودهم الحنطية. والذي يرى أن الكاتب ليس بحاجة لأكثر من قرائه، سواء في وطنه الأم، أو خارج هذا الوطن، هو بالتأكيد لا يتفهم شعور الغبن الذي يعيشه هذا الكاتب. فهو كاتب يتم إقصاؤه من مؤسسات البلد الرسمية والشعبية، وهو كاتب لا يتفاعل معه زملاؤه، هو خارج خارطة الانتماء، والسؤال الذي يطارده دائما هو: أين ترى انتماءك الآن؟

يحق للكاتب أن يشعر بأنه منتمٍ لبلده، بعيدا عن المكاسب المادية، فما هو معنوي يفوق بكثير ما هو مادي. وإذا فشلت المؤسسة الرسمية في احتواء هؤلاء الكُتاب، فعلى زملائهم المثقفين ألا يكونوا ملكيين أكثر من الملك ويشعروهم بأنهم ليسوا جزءا من جسدهم الثقافي.

هناك كُتاب بدون جدد يستحقون الاحتفاء، كما يحتفى بكُتاب من خارج الوطن وداخله، ومحاولة تهميشهم وتجاهلهم، هي رسالة كي يقتنعوا بلاجدوى ما يكتبون. تلك ليست رسالة استجداء لاحتوائهم، لكنها رسالة لنبذ هذا العداء. أعرف أنني أكتب موضوعا عاما، لكن إن استمر هذا الإقصاء، فسأسمي القوم بأسمائهم.