أوضح أيمن الحكيم في مقدمة كتابه «أنغام الروح ــ حكايات عن أروع الأغاني الصوفية» أن الأغنية الدينية في مصر قديمة قِدم المعابد الفرعونية، إذ وُلدت في حضن المعابد والمساجد استكمالاً لتاريخ من الموسيقى المصرية القديمة، والتي بدأت وولدت في المعابد الفرعونية قبل آلاف السنين، حيث عرف المصريون «التراتيل الدينية» التي تُنشد في مديح الإله، ومن المعابد انتقلت روح هذه الموسيقى إلى الكنائس، حيث احتفظت الكنيسة القبطية بكثير من تراتيل الأجداد الفراعنة، بنغماتها ولغتها الأصلية، الأمر الذي حَفظها من الزوال والضياع.

الحكيم أشار إلى أن من حسن حظ الأغنية الدينية أن الذين حملوا لواء نهضة الأغنية المصرية، أواخر القرن التاسع عشر، كانوا من «المعممين» والمشايخ الذين بدأوا حياتهم في ظلال القرآن حفظاً وقراءة، فنوابغ الموسيقيين الذين صنعوا مجد الأغنية المصرية الحديثة وبنوا قواعدها وأساس مجدها في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، أسماء في قيمة شيوخ مثل «المسلوب»، و«المنيلاوي»، و«سلامة حجازي»، و«علي محمود»، و«النقشبندي»... وكل منهم كان يحمل لقب «شيخ» ويعتز به ويفتخر.

Ad

يقول مؤلف الكتاب: «تدين الأغنية الدينية بشكلها المعاصر القائم على الغناء والموسيقى في ذيوعها وشهرتها إلى سبعة: مطربة ومطرب وشاعر وملحن ومداح وأمير وسلطان... وهم بوضوح: أم كلثوم، ومحمد الكحلاوي، وعبد الفتاح مصطفى، ورياض السنباطي، والمداح الأشهر ياسين التهامين وأمير الشعراء أحمد شوقي وسلطان العاشقين عمر بن الفارض».

فضل لا يُنكر

الغريب حقاً أن عشرات من المطربين والملحنين والشعراء قدموا إسهامات لا تنسى، ولهم فضل لا يُنكر على هذا اللون من الغناء، فكل نجم أو نجمة من المطربين والمطربات كان حريصاً على أن يكون له إسهام في الغناء الديني، ومن هنا يمكن أن تفهم تجارب قام بها «أكابر» في قيمة وشهرة المطربين: عبد الحليم حافظ، وشادية، وليلى مراد، ونجاة، وعبد الوهاب، ومحمد وفوزي، وصولاً إلى الجيل الحالي من نجوم الطرب المصري المعاصر.

ويروي مؤلف الكتاب قصة أغنية «أقول لك أيه عن الشوق يا حبيبي» للشاعر عبد الفتاح مصطفى التي غنتها «كوكب الشرق» أم كلثوم، فيقول: «هي أغنية عاش جمهور الست يرددها على أنها عاطفية رومانسية رقيقة، قصة غرام ملتهبة بين رجل وامرأة. حتى أم كلثوم نفسها وقعت في الفخ نفسه عندما غنتها (1965)، وداعبت شاعرها بعد نجاحها: أيه كل الحب اللي في الأغنية دي يا عبد الفتاح... شكلك واقع في حب جديد وكاتب لها الكلام الحلو ده» لتفاجأ به يقول: بس أنا مش كاتب الكلام ده في واحدة ست... أنا كاتبه في حبيبي رب العزة سبحانه وتعالى».

وراحت أم كلثوم تستعيد الكلمات فأطلت الحقيقة شاخصة مبهرة: إنها أغنية صوفية شديدة الروعة، كتبها عبد الفتاح مصطفى في حب الله وليس في حب امرأة.

التهامي والكحلاوي

أما عن المداح الشهير ياسين التهامي، فيقول مؤلف الكتاب: «صوته لا يعطيك فرصة للتفكير، ولا مهلة لتحديد موقفك، إنه يخطفك من أول جملة وأول دفقة شجن»، وهو ما حدث مع الحكيم عندما دله عليه الأديب الكبير الراحل جمال الغيطاني.

أما عن محمد الكحلاوي فيقول أيمن الحكيم: «لم تكن بداياته تشي أبداً بما انتهى إليه، ففي صباه وشبابه تنازعته نجومية الكرة ونجومية الفن، فقد كان مهووساً بكرة القدم ونبغ فيها وساعده بنيانه القوي ولياقته العالية، ومارس اللعبة في نادي السكة الحديد، حتى أن حسم النزاع داخله لمصلحة الفن وبات أحد نجوم الغناء والتمثيل السينمائي».

وحينما تبارى نجوم الغناء ونجماته بعد ثورة يوليو 1952 وبزغ نجم زعيمها عبد الناصر وتنافسوا في تمجيده والتغني له، وحده محمد الكحلاوي الذي لم يفعلها وأعلن بشجاعة أنه لن يغني لبشر بعد رسول الله، ويبدو أن عبدالناصر تفهَّم منطقه وتقبل مبرره فلم يمانع في منحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى (1967) وسلمه إياه بنفسه!

قصة أغنية «يا رايحين للنبي الغالي»

غنتها ليلى مراد في فيلمها «ليلى بنت الأكابر» الذي عُرض عام 1953. أما عن الأسباب التي دفعتها إلى طلب إضافة هذه الأغنية بالذات، فنجد أنفسنا أمام ثلاثة تفسيرات:

«يقول الأول إن ليلى مراد كانت خططت لأداء فريضة الحج لأول مرة في حياتها في ذلك العام، لكن موسمها تزامن مع تصوير الفيلم، فطلبت من أستوديو مصر إجازة للسفر إلى الأراضي المقدسة، وفوجئت بالرفض القاطع، ولأن قلبها كان تعلق بزيارة النبي فإنها طلبت من الإبياري أن يضيف أغنية إلى الفيلم تبعث من خلالها بسلامها مع الحجيج إلى ساكن المدينة المنورة، فكتب أبو السعود «يا رايحين للنبي الغالي»، وأخذت ليلى الكلمات وذهبت بها بنفسها إلى رياض السنباطي في فيلته بشارع إسماعيل الفلكي بمصر الجديدة، ورجته أن يلحن لها الأغنية بأسرع ما يمكن لتلحق بالفيلم، وهو ما حدث فعلاً»، كما يقول المؤلف.

التفسير الثاني يذهب إلى أن أغاني الحج كانت «صيحة» في سينما تلك الأيام وأفلامها، وحققت نجاحاً لافتاً. أما التفسير الثالث وهو الأقرب إلى الحقيقة والمنطق، أن ليلى مراد كانت تعيش آنذاك أكبر محنة في حياتها، حيث تعرضت لحملة تشكيك شرسة في عروبتها وإسلامها، وكان عليها أن تثبت للجميع أنها عربية ومسلمة! وكان عليها أيضاً أن تثبت عملياً أن إسلامها لم يكن تمثيلية، فلما عرض عليها فيلم «ليلي بنت الأكابر» طلبت من مؤلفه أبو السعود الإبياري أن يضيف أغنية في مديح نبي الإسلام وشوقها إلى زيارته.