مع ارتفاع حِدة الاستقطاب الحزبي إلى مستويات غير مسبوقة في الولايات المتحدة اليوم، يظل هناك هدف سياسي واحد على الأقل يحظى بإجماع عريض، ليس فقط بين الجمهوريين والديمقراطيين، بل أيضا بين كبار رجال الأعمال وقادة العمال، وبين الولايات والمدن، وبين المواطنين العاديين: وهو هدف تجديد البنية الأساسية.

كانت البنية الأساسية في الولايات المتحدة موضع تقصير وإهمال لسنوات، وتاريخيا استثمرت الحكومات الفدرالية، وحكومات الولايات، والحكومات المحلية معا نحو 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي في أصول البنية الأساسية غير الدفاعية، ولكن على مدار السنوات الخمس والثلاثين الأخيرة، سجل الاستثمار الفدرالي كحصة من الناتج المحلي الإجمالي هبوطا شديدا تجاوز النصف.

Ad

وقد تمكنت حكومات الولايات والحكومات المحلية لفترة طويلة من تغطية جزء من العجز، بزيادة مساهماتها إلى ثلاثة أرباع إجمالي الإنفاق، ولكن عندما اندلعت أزمة الركود العظيم، اضطرت الولايات والمدن إلى خفض ميزانياتها بشكل كبير، ونتيجة لهذا هبط إجمالي الإنفاق العام على البنية الأساسية في الربع الثاني من هذا العام إلى ما يقدر بنحو 1.4% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أقل حصة مسجلة على الإطلاق.

ويُصبِح الأمر أكثر إثارة للقلق، نظرا لحالة البنية الأساسية المتردية بالفعل في الولايات المتحدة، والتي حصلت على درجة D+ من الجمعية الأميركية للمهندسين المدنيين في تقريرها الذي يصدر كل أربع سنوات لعام 2017، فما يقرب من 20% من الطرق السريعة في الولايات المتحدة في حالة بالغة السوء، والتكاليف والعواقب المترتبة على الصيانة المؤجلة واضحة في كل مكان، وكل مدينة أو ولاية تقريبا لديها قصص مرعبة: أنفاق المترو المختلة في مدينة نيويورك، ومياه الشرب الملوثة بالرصاص في فلينت بولاية متشيغان، وشبه الانهيار لسد رئيسي في أوروفيل بولاية كاليفورنيا.

تشير تقديرات التقرير إلى أن استعادة البنية الأساسية في الولايات المتحدة إلى "حالة الإصلاح الجيد" تتكلف 4.6 تريليونات دولار في الفترة من 2016 إلى 2025، وهذا يعني زيادة مقدارها 2.1 تريليون دولار عن المبالغ الملتزم بها حتى الآن. ولهذا، يشكل تطوير مصادر تمويل جديدة للاستثمار في البنية الأساسية أمرا بالغ الأهمية.

ترتبط استراتيجية مبدعة خاضعة للمناقشة الآن في واشنطن العاصمة بإصلاح ضريبة الشركات، وهي أولوية في نظر الرئيس دونالد ترامب والجمهوريين في الكونغرس. فبموجب النظام الضريبي الحالي، تستطيع الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات أن تؤجل سداد الضرائب على أرباحها في الخارج إلى أن تُرسَل إلى الولايات المتحدة، ومع نمو الأرباح الخارجية وانخفاض معدلات الضرائب على الشركات الأجنبية، أصبح التأجيل جذابا على نحو متزايد. ونتيجة لهذا، تحتفظ الشركات الأميركية بما يقدر بنحو 2.6 تريليون دولار في هيئة أرباح أجنبية في الخارج، بدلا من إعادتها إلى الداخل وسداد الضرائب التي يمكن استخدامها لتمويل الاستثمار في البنية الأساسية المحلية على سبيل المثال.

منذ عام 2013، طرح الكونغرس الأميركي العديد من مقترحات الإصلاح لزيادة الإيرادات المحصلة من حصيلة الأرباح الأجنبية، ويربط مشروعان حديثان مقترحان من الحزبين- ويبدو أنهما يحظيان بدعم رئيس مجلس النواب بول ريان، بين آخرين- بشكل مباشر بين هذه الإصلاحات وتمويل البنية الأساسية الفدرالية.

ولكن ترامب يبدو حريصا على دفع حكومات الولايات والحكومات المحلية، التي هي في موقف قوي بالقدر الكافي لتقييم احتياجات مجتمعاتها، إلى تحمل قدر كبير من العبء، وقد أشار إلى أن التمويل الفدرالي سيقتصر على "الأولويات القصوى"، والمشاريع الوطنية "التحويلية"، ويُستَخدَم كرافعة لتشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص.

كان المستثمرون من القطاع الخاص حريصين لفترة طويلة على الاستثمار في البنية الأساسية العامة- مثل النقل أو الطاقة- في مقابل حصة من عائدات هذه المشاريع في المستقبل. وبطبيعة الحال، لا يهتم مستثمرو القطاع الخاص عموما بالمشاريع التي لا تدر عائدات- مثل المكتبات المدرسية، أو "الطرق الخضراء" الحضرية، أو إسكان ذوي الدخل المنخفض- على الرغم من أهمية هذه المشاريع للاقتصاد والمجتمع.

بيد أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص من الممكن أن تقدم قيمة كبيرة، فرغم أن التمويل الخاص ربما يكون أكثر تكلفة من التمويل العام الذي تدعمه الضرائب، فإن الشراكات بين القطاعين العام والخاص من الممكن أن تعود بفوائد ملموسة، على مدار فترة المشروع بالكامل، على الشريك الحكومي، بطرق عديدة: من خلال الإبداع، وانخفاض تكاليف التصميم، والبناء، والصيانة مدى الحياة؛ فضلا عن تخفيف المخاطر.

حتى يومنا هذا لم تؤد الشراكات بين القطاعين العام والخاص سوى دور ثانوي في تطوير البنية الأساسية في الولايات المتحدة، ويبدو أن ترامب مقتنع بأن المشكلة تكمن في نقص رأس المال الخاص المتاح، وعلى هذا فقد اقترح خطة ضريبية تتضمن إعفاءات سخية لتشجيع الاستثمار الخاص في البنية الأساسية.

وهو نهج غير سليم، ذلك أن ما يحد حقا من الاستثمار الخاص في البنية الأساسية يتلخص إلى حد ما في المعارضة الشعبية للملكية الخاصة للأصول العامة، وفي الأساس العقبات التي تحول دون المضاهاة بين رؤوس الأموال الخاصة وفرص البنية الأساسية، ورغم أن 37 ولاية لديها شكل ما من أشكال التشريعات التمكينية والأطر التنظيمية للشراكات بين القطاعين العام والخاص في مشاريع البنية الأساسية، فإن التفاوتات واسعة بين الولايات. وعلاوة على ذلك تفتقر العديد من الولايات والمحليات إلى القدرة على تقييم تكاليف وفوائد الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وهي المشكلة التي اقترح الرئيس باراك أوباما حلها بإنشاء مركز معرفي فدرالي جديد للشراكات بين القطاعين العام والخاص.

في نهاية المطاف، يتطلب تجديد البنية الأساسية الفاشلة في أميركا ما نسميه "الفدرالية التدرجية": تسخير مواطن القوة في كل مستوى من مستويات الحكومة والعمل مع القطاع الخاص في التصدي للتحديات الاجتماعية والاقتصادية الملحة.

يتعين على الحكومة الفدرالية أن تعمل على تعزيز الأهداف على المستوى الوطني؛ وفرض معايير صارمة لاختيار المشاريع ومقاييس إدارة صارمة في مجالي التشييد والصيانة؛ ودفع حكومات الولايات والحكومات المحلية إلى القضاء على الروتين البيروقراطي والخصومات المهلكة الباهظة التكلفة. ومن المنظور المالي، ينبغي لها أن توفر التمويل الكافي للمشاريع ذات الأهمية الوطنية والإقليمية، واستخدام نفوذها المالي للتغلب على العقبات وفرض أفضل الممارسات.

ومن جانبهم، يتعين على حكام الولايات ورؤساء البلديات أن يحملوا لواء الريادة في تحديد الأولويات على مستوى الولايات والمحليات، على أن تقرر كل منها ما إذا كانت راغبة في المشاركة في المشاريع الوطنية، وبوسع المستثمرين من القطاع الخاص أن يعملوا على توفير رأسمال المخاطرة، والإبداع، والخبرات الإدارية، بوصفهم متعاقدين على مشاريع ممولة من القطاع العام وشركاء في مشاريع مدرة للدخل.

ودعما لهذه العملية، نحث الكونغرس على إنشاء "لجنة للبنية الأساسية في القرن الحادي والعشرين"، تتولى رئاستها بشكل مشترك فِرَق من رابطة الحكام الوطنيين (ربما بقيادة حاكم ولاية أوهايو الجمهوري جون كاسيتش) ومؤتمر رؤساء البلديات (ربما بقيادة عمدة لوس أنجليس الديمقراطي إيريك غارسيتي)، وينبغي للجنة أن تضم كبار رجال الأعمال وممثلين على مستوى مجلس الوزراء في إدارة ترامب، مثل وزيرة النقل إلين تشاو ومدير المجلس الاقتصادي الوطني جاري كوهن.

في وقت حيث يُبدي الأميركيون أقل قدر من الاتفاق على أي شيء آخر، يتفق الجميع تقريبا على أن الوقت حان لإعادة تشييد البنية الأساسية في البلاد، وتتلخص المهمة الآن في تحويل الإجماع إلى عمل حقيقي.

* لورا تايسون و ليني ميندونكا

* لورا تايسون رئيسة مجلس رئيس الولايات المتحدة للمستشارين الاقتصاديين سابقا، وأستاذة في كلية هاس لإدارة الأعمال في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وكبيرة مستشارين لدى مجموعة روك كريك. وليني ميندونكا كبير زملاء معهد بريسيديو، ومدير ماكنزي وشركاه سابقا.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»