لم تحظ الولايات المتحدة برئيس مثل دونالد ترامب قط، مع شخصيته النرجسية وعدم اكتراثه، وافتقاره للخبرة في الشؤون العالمية، فهو يعمل على إعداد شعارات فقط بدلاً من استراتيجية في السياسة الخارجية.

هل سينظر المؤرخون المستقبليون إلى رئاسة ترامب على أنها انحراف مؤقت أم نقطة تحول رئيسة في دور أميركا في العالم؟ يميل الصحافيون إلى التركيز بشكل كبير على شخصيات القادة، لأنها مثيرة للاهتمام، في المقابل يميل علماء الاجتماع إلى تقديم نظريات هيكلية واسعة حول النمو الاقتصادي والموقع الجغرافي الذي يجعل التاريخ أمرا لا مفر منه.

Ad

وقد كتبتُ في مرة كتابا حاول اختبار أهمية القادة من خلال فحص نقاط التحول المهمة في خلق قرن مضى من «الحقبة الأميركية» والتفكير فيما يمكن أن يحدث لو كان منافس الرئيس الأكثر جدارة في مكانه، وهل جلبت القوى الهيكلية حقبة القيادة العالمية الأميركية نفسها في ظل رئاسة مختلفة؟

وفي بداية القرن العشرين، كان ثيودور روزفلت قائدا ناشطا، لكنه تأثر في الغالب بزمانه، وكان النمو الاقتصادي والجغرافيا هما المحددين القويين. كسر الرئيس وودرو ويلسون التقاليد مع أميركا عن طريق إرسال القوات الأميركية للقتال في أوروبا؛ لكن ويلسون أحدث فرقا كبيرا في النبرة الأخلاقية للاستثنائية الأميركية في تبريره، وإصراره العنيد على المشاركة الحاسمة في عصبة الأمم.

أما بالنسبة إلى فرانكلين روزفلت، فيمكن مناقشة ما إذا كانت القوى الهيكلية في عهده قد تسببت للولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية تحت عزلة محافظة، ومن الواضح أن تقييم فرانكلين للتهديد الذي يشكله هتلر، وإعداده للاستفادة من واقعة مثل بيرل هاربور، كانت عوامل حاسمة.

وقد شكلت الثنائية القطبية الهيكلية في الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي بعد عام 1945 إطارا للحرب الباردة، لكن رئاسة هنري والاس (التي كانت ستحدث لو لم يقم فرانكلين بوضع هاري ترومان مكانه كنائب للرئيس في عام 1944) ربما غيرت أسلوب الاستجابة الأميركية، وبالمثل فإن رئاسة روبرت تافت أو دوغلاس ماك آرثر قد عطلت التوحيد السلس نسبيا لنظام الاحتواء الذي ترأسه دوايت آيزنهاور.

وفي نهاية القرن تسببت القوى الهيكلية للتغير الاقتصادي العالمي في تآكل القوة العظمى السوفياتية، وسرعان ما سعت محاولات ميخائيل غورباتشوف للإصلاح إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن دفاع رونالد ريغان وأسلوبه الذكي في التفاوض، مع مهارة جورج بوش في إنهاء الحرب الباردة، كانا مهمين للنتيجة النهائية.

هل هناك قصة معقولة تكون فيها أميركا عاجزة عن تحقيق الأولوية العالمية بحلول نهاية القرن العشرين بسبب القيادة الرئاسية المختلفة؟

وربما لو لم يكن فرانكلين روزفلت رئيسا للبلاد، ولو عززت ألمانيا سلطتها، لأدرك النظام الدولي في الأربعينيات رؤية جورج أورويل لعالم متعدد الأقطاب معرض للنزاع. ربما لو لم يكن ترومان رئيسا وكان ستالين قد حقق مكاسب كبيرة في أوروبا والشرق الأوسط، لأصبحت الإمبراطورية السوفياتية أقوى، وقد تستمر الثنائية القطبية لفترة أطول. ربما لو لم يكن ايزنهاور أو بوش رئيسين، وفشل قائد آخر في تجنب الحرب، لكان الصعود الأميركي بعيدا عن المسار (كما كان الحال في فترة تدخل الولايات المتحدة في فيتنام).

ونظرا إلى حجمها الاقتصادي وجغرافيتها المناسبة، من المرجح أن تكون القوى الهيكلية قد شكلت شكلا من أشكال الأولوية الأميركية في القرن العشرين، ومع ذلك فإن قرارات القادة أثرت بشدة على توقيت الأولوية ونوعها. إذا كان التاريخ هو النهر الذي يتشكل مساره وتدفقه من قبل القوى الهيكلية الكبيرة للمناخ والطبوغرافيا، فيمكن تصوير العوامل البشرية بأنها نمل متشبث بقطع أشجار اجتاحها التيار.

القيادة مهمة، ولكن إلى أي حد؟ لن تكون هناك إجابة نهائية، في بعض الأحيان فإن العلماء الذين حاولوا قياس آثار القيادة في الشركات أو التجارب المختبرية قد وصلوا إلى أرقام تتراوح بين 10 أو %15، تبعا للسياق، ولكن هذه حالات منظمة للغاية، حيث التغيير غالبا ما يكون طوليا، وفي حالات غير منظمة، مثل جنوب إفريقيا ما بعد الفصل العنصري، أحدثت القيادة التحويلية لنيلسون مانديلا فارقا كبيرا.

ولأن أحداث السياسة الخارجية هي ما يسميه علماء الاجتماع «المسار المعتمد»، فإن الخيارات الصغيرة نسبيا من قبل القادة، حتى في حدود 10 - 15% في وقت مبكر على المسار، يمكن أن تؤدي إلى اختلافات كبيرة في النتائج مع مرور الوقت، فعندما يتباعد طريقان في الغابة، يمكن لأخذ الطريق غير العادي أن يحدث أحيانا فرقا كليا.

وأخيرا فإن المخاطر التي تنشأ عن شخصية القائد قد لا تكون متماثلة؛ لكنها قد تُحدث فرقا أكبر من القوة المتصاعدة. إن الارتطام بالصخور أو التسبب في حرب يمكن أن يغرق السفينة، وإذا تجنب ترامب حربا كبيرة، وإذا لم يُعَد انتخابه، فإن علماء المستقبل قد يَنظرون إلى رئاسته في المستقبل كعلامة غريبة في التاريخ الأميركي، لكن كل هذه تخمينات فقط.

* جوزيف س. ناي الابن

* أستاذ في جامعة هارفارد ومؤلف

كتاب «هل هذه نهاية القرن الأميركي؟»

«بروجيكت سنديكيت،2017» بالاتفاق مع «الجريدة»