أزمة فنزويلا... سطحية المعالجة تقودها إلى الانهيار
نموذجها يشابه اقتصادات دول الخليج وحظها السيئ قادها لتقديم المثال
ضخت حكومة مادورو كميات كبيرة جدا من النقود في النظام المالي، لضمان نجاح الرئيس لولاية ثانية، حتى اختفت في الأسواق، خلال شهور قليلة، معظم المواد الأساسية، فعادت الحكومة الفنزويلية مجددا إلى طباعة كميات أكبر، لكنها لم تستطع سداد قيمة الطباعة الجديدة لأوراق النقد!
القول بأن وقوف جمهورية فنزويلا هذه الأيام على حافة الانهيار الاقتصادي يعبر عن قدر من الإيجابية المفرطة، أو التفاؤل المبالغ فيه، وربما التدليس لوصف حالة هذه الدولة، التي تسبح على بحر من احتياطات النفط العالمية، وتعد سادس أغنى دولة في العالم، لكنها في الوقت ذاته تواجه مجموعة أزمات اقتصادية وسياسية طاحنة.فهذه الدولة، التي تتسارع فيها كرة ثلج تحدياتها منذ نحو عامين تقريبا، تشهد حاليا أعلى معدلات التضخم في تاريخها إلى نحو 1500%، مع تضاعف أسعار المواد الأساسية والغذائية كالحبوب واللحوم إلى نحو 13 ضعفا عما كانت عليه عام 2015، ونقص لافت للأدوية، وتراجع القدرة على الاستيراد مع استهلاك نحو 75% من احتياطي العملات الأجنبية، فضلا عن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لعام 2017 بنحو 35% عن مستوياته عام 2013، أي بـ40% من حيث نصيب الفرد في الدخل، إضافة إلى فرض الولايات المتحدة عقوبات مالية عليها.
أزمات متلاحقة
لكن حافة الانهيار تتفتت أكثر في فنزويلا، مع انزلاق البلاد في دائرة العنف، لدرجة تطورت أزمتها الاقتصادية الطاحنة، التي حولت البلاد إلى مناطق عتمة بعد تراجع إنتاج الدولة للكهرباء بنحو 80 في المئة، مقارنة بعام 2013، إلى أزمة سياسية عميقة سرعان ما وصلت إلى اتهام الأمم المتحدة لها بالولوج في جرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي يجعل كل يوم أسوأ من سابقه، حتى باتت فيه صور وكالات الأنباء عن مزاحمة الناس للحيوانات الضالة على بقايا الطعام مشهدا متكررا في أكثر من مناسبة!تعتمد فنزويلا على النفط، قبل تراجع أسعاره، بنسبة 90% من دخل البلاد، مثلها مثل معظم دول الخليج النفطية، بل بنسبة قريبة من اعتماد الكويت على البترول في دخلها، 91%، وبدأت نشأة الأزمة فيها بالتزامن مع تراجع أسعار النفط العالمية منتصف 2014، وتعد الدولة الأكثر خسارة من هذا الهبوط على أكثر من صعيد، كالتضخم وسعر صرف العملة والبطالة والفقر، وغيرها من الأزمات السياسية والخدمية والإنسانية.طباعة أموال
اللافت في أزمة فنزويلا هو المثال الصارخ على سوء معالجة الأزمة الاقتصادية، والتوجه إلى المكاسب قصيرة المدى، حتى لو كانت على شكل أوهام يجري تسويقها في المجتمع، ففي خريف 2015، وبغية اتخاذ إجراءات قبل الانتخابات الرئاسية في نهاية العام نفسه ضخت حكومة الرئيس نيكولاس مادورو كميات كبيرة جدا من النقود في النظام المالي، عبر صرف هبات ومعونات وزيادات اجتماعية ووظيفية للمواطنين، لضمان نجاح الرئيس لولاية ثانية، حتى اختفت في الأسواق، خلال أشهر قليلة، معظم المواد الأساسية المدعومة، خصوصا الغذائية والاستهلاكية، فعادت الحكومة الفنزويلية مجددا إلى طباعة كميات أكبر من النقود، حتى قررت شركات طباعة أوراق النقد المعتمدة عالميا، وأبرزها ديلارو البريطانية، وقف طباعة العملة الفنزويلية (البوليفار) لتعثر حكومة كراكاس عن سداد قيمة الطباعة!هذه السياسة التي يفترض أن تكون «معالجة» اثرت بشكل جوهري على عملة البوليفار، ما جعلها تفقد 99% أمام الدولار الأميركي، مقارنة بقيمتها قبل تراجع أسعار النفط.ومع ذلك فإن تحديات فنزويلا أعمق بكثير من سطحية معالجة أزماتها، فهي مثلا أمام تحدي سداد نحو 5 مليارات دولار كديون سيادية قبل نهاية العام الجاري، من أصل 66 مليار دولار إجمالي ديونها التي صعدت سريعا مع تراجع أسعار النفط، وباتت هذه الدولة اللاتينية تتصدر قائمة المؤسسات المالية لأكثر الدول عرضة للتخلف عن سداد ديونها، مع تآكل رصيد البلاد من العملات الأجنبية وبالتالي نمو تحديات السداد.السعيد والشقي
يخبرنا المثل العربي بأن «السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه»، وبالتالي فإن اتخاذ فنزويلا كمثال يستوجب تحاشي تكراره في منطقتنا بأي شكل من الأشكال، ليس من قبيل المبالغة أو التشاؤم، إذ تتشابه دول الخليج مع فنزويلا في عدد من العوامل، أبرزها الاعتماد العالي على المداخيل النفطية في إيراداتها، والتأثر السلبي بدرجات متفاوتة بتراجع أسعار النفط عالميا، وعدم استغلال سنوات الفوائض النفطية العالية، والتي امتدت لنحو 16 عاما، في بناء اقتصاد رديف يكون بمنزلة الوسادة التي تقي هذه البلدان من شدة الارتطام بحائط الأزمات الاقتصادية.كذلك تتشابه فنزويلا ودول الخليج في إسراعها نحو سوق الديون، بغية تلافي الآثار السريعة لنقص الإيرادات العامة مقابل تنامي المصروفات، فضلا عن الاشتراك بصور متغايرة في استخدام الأموال لشراء الود السياسي لشعوبها، دون اتخاذ إجراءات طويلة المدى لإصلاح الاقتصاد مع تراجع جاذبية النفط في الأسواق العالمية، ما ينبئ بأن الحلول السريعة قصيرة المدى هي المسيطرة على عقلية متخذي القرار بالمنطقة، حتى وإن تم تسويقها على شكل خطط ورؤى عامة على آماد طويلة.حظ فنزويلا كان أسوأ بكثير من دول الخليج من جهة اشتعال أزماتها الاقتصادية والسياسية الداخلية، وأزمتها الخارجية مع الولايات المتحدة في وقت واحد، وهذا الحظ لا يمكن الرهان عليه طويلا، وسط أوضاع منطقة الخليج الجيوسياسية المتأزمة المرتبطة مع المصاعب الاقتصادية، فضلا عن علاقات ليست بالقدر السابق من المتانة مع الحليف الأميركي، وهنا يعود السؤال حول موقعنا في التعامل مع دروس أزمة فنزويلا ورغبتنا في لعب أي دور... سعيد أم شقي؟