يخطئ من يوهم نفسه أنه مُقبل على رحلة البحث عن «كنز» بمفهومه المادي المباشر، وأخطأ المخرج شريف عرفة، ومعه الكاتب عبد الرحيم كمال، عندما أوحيا، في مشهد بالفيلم، أن القلادة النادرة التي منحتها «فاطمة الفيومية» (سوسن بدر) لابنها «علي الزيبق» (محمد رمضان) ليرهنها، ويبتاع المحل الذي عرضه عليه التاجر المغربي «حمدون»، هي جزء من «الكنز» المقصود، فالمغزى الذي يذهب إليه فيلم «الكنز» أكبر بكثير من المعنى السطحي الذي يتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى.تتمازج العصور، وتتلاشى الفروق، في فيلم «الكنز»، حتى أن المتلقي لا يكاد يستطيع التفريق بين «الكاهن الأكبر» (محيي إسماعيل) الطامح إلى الحكم في العصر الفرعوني وبين «الشيخ هيبة» (أحمد صيام) رجل الدين في العصر العثماني و{مولانا» (عبد العزيز مخيون) في عصر الملك فاروق، وتتكرر الحال بين «صلاح الكلبي» (عباس أبو الحسن) ممثل السلطة في العصر العثماني و{بشر الكتاتني» (محمد سعد) رئيس القلم السياسي في العهد الملكي. فالجميع يحكم باسم الدين أو السلطة، ويمارس شتى أشكال القهر الديني والسياسي، فيما تتواصل قصص الحب، وتتخذ لها أشكالاً عدة، بداية من علاقة الاستلطاف بين «حتشبسوت» (هند صبري) وابن العامة «سينموت» (هاني عادل) مروراً بحب «علي الزيبق» للفتاة «زينب الكلبي» (روبي) وانتهاء بالحب السادي المشوب بعاطفة قلقة، ورغبة في السيطرة، بين «بشر» ومطربة الملهى الليلي «نعمات» (أمينة خليل)، فضلاً عن الإشارة الواضحة إلى العلاقة المتوترة بين الحاكم والرعية، وإرهاصة الثورة على «الفرعون» (جميل برسوم) وابنه (رمزي لينر) أو انتفاضة «حسن رأس الغول» (محمد رمضان) ضد الخليفة العثماني، ووزير داخليته «الكلبي»، وهي الانتفاضة التي تُستكمل على يد «علي الزيبق» وأتباعه من «الشطار»، وتتجلى مجدداً مع مثول «أنور السادات» (محمد حسن الجندي) للتحقيق أمام رئيس القلم السياسي في عهد الملك «فاروق» (اختيار موفق للممثل محمد محمود عبد العزيز)، عبر اغتيال أمين عثمان، وزير المالية في حكومة الوفد، وهو ما يحقق المقولة التي يرفعها الفيلم «لكل وقت بطله»!
يعتمد «الكنز: الحقيقة والخيال» على طريقة سرد مبتكرة، وغير تقليدية، ينتقل فيها من عصر إلى آخر بسلاسة (مونتاج داليا الناصر) فيما ينجح الديكور (أنسي أبو سيف)، كذلك الملابس (ملك ذو الفقار)، والخلفية، في الإيحاء بهوية العصر الذي تدور فيه الأحداث، من دون تأكيد هذا بلوحة أو تنويه على الشاشة، كما جرت العادة. وطوال الوقت يخلص المتلقي إلى يقين جازم بأن «التاريخ يُعيد نفسه»، وأن العلم والفن هما الحياة، التي يستحيل على الشعوب أن تحيا من دونهما، فيما يردد الحكيم الزاهد، سواء أكان «إني/ الشيخ على الله» (عبد العزيز مخيون) أن «العرش فتنة الحكام»، ويُدرك المتفرج الفطن أن العلاقة بين الشرطة والشعب أقرب إلى «لعبة القط والفأر» التي لن تنتهي، ما دام في الكون رمقٌ من حياة!كعادته يجمع المخرج شريف عرفة عناصر المتعة، والجاذبية، والسيطرة على الأداء التمثيلي، فيقدم في النهاية تجربة بصرية أخاذة (كاميرا أيمن أبو المكارم)، توافرت لها مقومات المتعة، والجاذبية، من موسيقى مؤثرة (هشام نزيه)، وأغان شجية (نسمة محجوب)، واستعراضات مُبهرة (عاطف عوض)، ومونولوج خفيف الظل (أحمد أمين)، وهي مناسبة للإشادة بالشركة المنتجة (الأخوة المتحدين لصاحبها وليد صبري)، التي خاضت بشجاعة، تُحسد عليها، غمار تجربة هي مغامرة في حقيقة الأمر.في «الكنز» فقط تندمج مع «الفرعون»، الذي تؤمن بطانته أنه ظل الإله فيما ترى الرعية أنه مجرد أكذوبة، وفجأة تنتقل مع «علي الزيبق» وهو يوزع النفحات على الفقراء، في السر، على غرار ما كان يفعل «عاشور الناجي» مع الحرافيش، وتتطلع إلى المشهد الذي يُصادر فيه القلم السياسي «المونولوج»، ويعتقل كل من شارك في أدائه، فتقارن فوراً بين ما حدث في تلك الحقبة، وبين ما يجري حتى هذه اللحظة من مصادرة للفكر، وقمع لحرية الإبداع، وتفتيش في النوايا، واغتيال ناتج عن الشعور بالظلم والقهر، مثلما حدث مع رئيس القلم السياسي، ويكاد يكون صورة طبق الأصل من محاولات اغتيال عدة استهدفت بعض رموز القمع! في ظل هذه الجرعة الدسمة أضفى الكاتب عبد الرحيم كمال شاعرية وعذوبة على التجربة، وفي زهد صوفي جميل اختار أن ينأى بنفسه، والفيلم، من الوقوع في فخ الخطابة المباشرة، أو الرسائل الموجهة، وترك للمتلقي قراءة «الكنز» بالشكل الذي يروق له، فمن يرى أنه يُحذر من بيع الأصول، ويحض على قراءة السير، والاعتبار بوقائع التاريخ، كوسيلة للتشبث بالهوية والعودة إلى الجذور، فليفعل، ومن يقرأ الفيلم بناء على خلفية سياسية فهو حقه، أما من يراه فيلماً عن الحلم بالمدينة الفاضلة أو «يوتوبيا» فلا اعتراض، فهو عمل شديد الثراء، وأهميته، بالإضافة إلى متعته على صعيد اللغة السينمائية، تكمن في تعدد قراءاته، ومن أجل هذا كان الاحتفاء بالتجربة، التي ينبغي البناء عليها، واستثمار التجاوب الجماهيري معها، والأهم تشكيل ذائقة فنية مختلفة.
توابل - سيما
«حادث... ولكن»!
15-09-2017