في ديوانك الجديد «نِصفُها زَنبَقَةٌ، نِصفُها امرَأَة»، تلبس الطبيعة ثوب المرأة وشخصيتها، تماماً كما في ديوانيك السابقين، لماذا هذا الانصهار بين الطبيعة والمرأة؟

في ديواني الجديد «نصفها زنبقة، نصفها امرأة» كما في دواويني السابقة، المرأة هي الطبيعة، والطبيعة هي المرأة. والرحيل في النهاية قدرهما الموسوم بالغياب. فكما الطبيعة بفصولها من الربيع إلى الخريف كذلك المرأة والحب من الوصال الى الهجران. إنها جدلية الحياة والموت.

Ad

ولماذا هذا الانصهار بين الطبيعة والمرأة؟ لان الشاعر يطلب الجمال من منابعه الأصلية من الطبيعة الأم ومن المرأة الأم. فكما ان الطبيعة هي أم فكذلك المرأة، انه منطق الحلولية، الطبيعة تحل فينا ونحن نحُلُّ فيها وكذلك المرأة. ولأن الحب يأتي أخيراً من رحم الجمال الطبيعة-المرأة، لذلك فإن مفردات شعري عموماً مأخوذة من الحقل المعجمي للطبيعة. والمرأة في شعري هي القديسة الموحية العجائبية التي تنشر الخضرة والظلال اينما حلّت ولها مرتبة القداسة في نفسي.

تستعمل الطبيعة لغة للتعبير في شعرك عموماً، هل لقريتك التي عشت فيها الدور في هذا الاتجاه؟

انا ابن الريف الكوراني(شمال لبنان): ابن «دارشمزين» عروسة الكورة الخضراء (مواليد عام 1947) وفيها دَرَجتُ صغيراً وزرَعتْ قدماي ذكريات وذكريات... فجاء شعري معبِّراً عن براءة الأرض الطيبة المثقلة بالجنى. ولقريتي عميق الأثر في نفسي وفي شعري. ولأن لي فيها «شخروباً» إذا صح التعبير وهو غرفة زراعية كالصومعة بين أشجار العنب والتين والزيتون والشربين، في مكان بعيد في خراج قريتي المطل على النهر وعلى «عين البستان» نبع قريتنا الأحب، وفيه أقضي معظم أوقات فراغي شتاءً وصيفا ليلاً ونهاراً. وفيه ايضاً أكتب أشعاري على صوت الريح والمطر، أراقب تدفّق الجداول ورقرقة السواقي في المنحدرات حيناً وحيناً على صوت العصافير في صحو الصباحات المشرقة. بين الكروم والحقول الزاهرة الندية... هذه المشاهد كيف لا تعطي الاحساس بالجمال في أحضان الطبيعة التي قال عنها أحدهم إنها «كرسي مجد الله»، هذا الاحساس يصقل الموهبة ويرفدها بكل عناصر القوة المستمدة من الطبيعة الخالدة في عظمتها وبهائها المطلق.

قريتك زاخرة بالشعراء كيف تؤثر البيئة على تنمية الموهبة الكتابية؟

قريتي دارشمزين زاخرة بالشعراء لأن البيئة الجميلة، بيئة القرية العذراء تنمّي الموهبة الكتابية وتصقلها، لذلك جاءت موضوعات شعري منسابة قطرات ندى مشبعة برائحة الصّعتر البري والزوفى مضمّخة بعطر الأزاهير، مزخرفة منمّقة بألف لون ولون وهي مستمدة بالطبع من بيئتنا الخلابة.

تجاوزات في الأسلوب

«وحيداً ولا أتذكر» (1997)، «قنطرة فوق الجسد» (2007) «عذب مائي في بئر الحب» (2012)، ثمة فترة زمنية بينها، فهل تترك للزمن أن يؤقت ولادة الدواوين؟

«وحيداً ولا أتذكر» هو أول ديوان أصدرته في العام 1997 وديواني «نصفها زنبقة، نصفها امرأة» هو الديوان الرابع الأخير الذي أصدرته في العام 2017، وعليه فإن العشرين سنة الأخيرة كانت الفترة الزمنية التي فيها نشرت دواويني الأربعة، وجاء ذلك بعفوية مطلقة ومن دون أية اعتبارات أخرى.

هل ديوانك الجديد هو امتداد لدواوينك السابقة أم يشكل مرحلة جديدة في مسيرتك الشعرية، سواء في الشكل أم في المضمون؟

إنه امتداد لدواويني السابقة مع بعض التجاوزات المتمثلة في الأسلوب فقط. أما المضمون فلم يتغير إذ بقي هو هو يدور حول المرأة والحب والطبيعة. وعلى صعيد الأداء، أراني أذهب الى الفكرة المعبّر عنها عن طريق المرادفات المعنوية المصوّرة، لا المقرّرة كمثل قولي:

«شجرة على الطريق/ لا نساء غيرها/ تشبهكِ/ سوف أبقى تحتها

لأقطفَ نهاري»/.

ومنها أيضاً خلوّ القصائد من أدوات الربط في الغالب، كقولي مثلاً:

«ذهب الصيفُ/ تعرّى الحُبُّ / من أوراقهِ / قبل الرياح/ امرأة راجعة من حقلها/ عند الغياب/ تركت لي ظلّها / فوق الطريق».

منها أيضا القبض على «الحالة» والفرار بها بأقدام الكلمات، كما يقول صديقي الدكتور الشاعر والناقد الكبير اميل كَبَا عن الناحية الأسلوبية في مقدمة ديواني الأخير «نصفها زنبقة، نصفها امرأة»، كمثل قولي:

«شاعر يقوم كل يوم/ يهندمُ صفحته/ يمشط أحرفه/ ويرسل إليها/ خواطر الحبقْ/ شاعر وامرأة ينشرها/ قوس قزح/ ويختم أشواقه/ بقبلة على الشفقْ.

وهكذا تنتقل الحالة المعبّر عنها من الغياب الى العين الحاضرة، وقد تهيأت لاحتضانها بشغف».

منحى سريالي

كتبت عن لبنان من جروده إلى سواحله، فهل ترسم الوطن انطلاقاً من ذاتك ومن رؤيتك أم انطلاقاً من الواقع؟

أرسم الوطن والحُب والطبيعة انطلاقاً من ذاتي فقط... أشتعل في لحظة القدح فيخرج شيطان الشعر إلى صفحاتي نوراً ومباسم ومناخاً يسوده مزاجية جنون الصدق في التعبير عن الحالة-المعاناة التي أحياها. ولعلّ ذلك يعود الى المنحى السريالي الذي يطبع شعري أسلوباً ومضموناً على السواء.

لماذا يتكرر الصيف في شعرك، هل هو فسحة راحة وأمل أم يؤذن ربما للخريف أو الرحيل؟

يتكرر الصيف في شعري لأنه بالضبط يؤذن للخريف أو الرحيل... وفي نفس الوقت فهو يشير إلى زمن الحب الذي كان... ففي أول الصيف كان الحب وفي آخر الصيف كان الفراق!! إن ندوب العواطف التي تركها الصيف في نفسي وشعري لا تزول. إنها ندوب إلهية دائمة. ولعل هذا التكرار للصيف في قصائدي يتمثل أصدق تمثيل في قصيدة لي جديدة غير منشورة أقول فيها:

«امرأة راجعة من صيفها/ امرأة في اخر الضفافِ.../ صفصافةٌ.. تُمشِّطُ أوراقها في حفلة الوداعِ/ امرأة في اخر الحُب/ في اخر الصيف/ رَحَلَت كأنها/ السنونو»

لماذا تعتمد الأسلوب السريالي في شعرك، وإلى اي مدى يتفاعل القارئ مع هذا الأسلوب؟

أحافظ في شعري على الخط السريالي الذي بدأته في ديواني الأول وظللت وفياً لمبادئ السريالية الاصيلة التي لا تُناقضُ بين الموت والحياة، ومن هنا يأتي معنى هذا الحُب المُمَجِّد للمرأة الرسولة حيث يتخذ الحُب بعداً أسطورياً عن طريق الحُلم الذي يجعلني أمارس حقوقي في الحرية وصولا الى حرية الحُب. وتجدر الإشارة هنا الى أن مثل هذا الشعر يصعُب فهمه ويلزمه قارئ جديد مثقف حتى يتفاعل ايجاباً مع مثل هذا الشِعر.

هل تقصد من خلال هذا الأسلوب أن تترك للقارئ الحرية في أن يفهم القصيدة وفق تجاربه وليس وفق تجاربك؟

هذا الأسلوب السريالي يترك الحرية للقارئ في أن يفهم القصيدة وفق مايريد أو وفق ما له من تجارب شبيهة بتجارب الشاعر نفسه. ويأتي ذلك في ضوء اعتماد كل من القارئ والشاعر الذهنية الشعرية ذاتها...

هذه الذهنية السحرية التي لا زالت الخط الأساس للمذهب السريالي الذي تأسس فعلياً في مطلع العام 1924 على يد «اندره بريتون» ورفاق له في باريس.

مشوار مع الشعر

«مشواري مع الشعر طويل...» هكذا يجيب الشاعر ناجي يونس رداً على سؤال حول بدايته مع الشعر، ويضيف: «بدأته يوم كنت طفلا في المدرسة الابتدائية إلى أن وصلت الى المرحلة الجامعية، وفي هذه المراحل كنت أكتب أحياناً وألقي بعض منظوماتي في المناسبات الاجتماعية والوطنية، بحيث لُقِّبتُ «بالشاعر» منذ طفولتي الأولى».

يتابع: «إلا أن هذه الكتابات كانت شعرا زجلياً عامياً ولقد اختفت هذه الكتابات بالكامل بعدما احترق بيتنا أثناء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976. وبعد دخولي الجامعة في مطلع السبعينيات رحت أكتب الشعر الفصيح ولا ازال».