د. أسيري يبحث سياسة الكويت الخارجية (2)
يواصل د. عبدالرضا أسيري شارحاً في كتابه، ثالث محددات سياسة الكويت الخارجية السبعة، بعد العامل الجغرافي والعامل الاقتصادي وهو «العوامل السكانية والمجتمعية».وليس العامل الحاسم في هذا المجال عدد السكان وحده بل نوعيتهم ودرجة التماسك في ذلك المجتمع «حيث إنه كلما زادت درجة التوتر داخل المجتمع ضعفت السياسة الخارجية للدولة».ومن البارزين في دراسة هذا العامل وما يتعلق به «باري بوزان» Buzan، الذي بحث «صراع الهويات» داخل المجتمع نتيجة للصراع بين أبناء الأعراق المختلفة وسط تنامي أعداد اللاجئين في الدول المختلفة، وتحدث عن تأثير عدد السكان في السياسة الخارجية، ويلاحظ أسيري أنه «على الرغم من أن النظرية تشير إلى أن العدد الضخم من السكان يسمح باتباع سياسة خارجية قوية، فإنه في حالة الكويت لم يحل العدد المحدود من السكان دون اتباع تلك السياسة، لأن العبرة هنا ليست بحجم السكان فقط بل أيضاً بمستوى التعليم والمهارات المتاحة والقدرة على توظيف كل ذلك في مجال السياسية الخارجية».
ويحدد الباحث عدد غير الكويتيين عام 2015 بنحو ثلاثة ملايين، أي ما يقارب الـ69% من السكان وهي بالطبع نسبة عالية وغير طبيعية ولكن، «على الرغم مما يثار من تداعيات سلبية لتزايد العمالة الوافدة على الأوضاع الداخلية في الكويت، فإن هذا الأمر لم يؤثر بشكل كبير على درجة التماسك المجتمعي داخل الكويت». ويضيف د. أسيري «تغيرت خصائص الوافدين إلى الكويت في الوقت الراهن مقارنة بالفترة السابقة للغزو العراقي للكويت لتصبح أغلبية العمالة الوافدة غير عربية». (سياسة الكويت الخارجية، ص 37).ولكن هل هذه الزيادة في عدد العمالة الوافدة والتضخم السكاني هي ما تتحدث عنه النظريات السياسية في المجتمعات الأخرى، وبخاصة المتقدمة والمنتجة، أم أن ما تعانيه المنطقة الخليجية في الغالب مجرد تكديس بشري هائل ناجم عن فساد وتجاهل للحقوق والقوانين لقوى عاملة مؤقتة تعاني نسبة كبيرة منها الأمية أو قلة التدريب، فوق كونها في الغالب أكثر بكثير من الحاجة الفعلية وأقل صلاحية لمتطلبات التطور. ثم ماذا عن الحقوق السياسية والاجتماعية والمستحقات المالية والإنسانية التي تقرها كل المواثيق الدولية؟ وهل سكوت هذه الفئة عن رواتبها المتدنية ومساكنها غير اللائقة وحقوقها الضائقة، يعني العدالة والرضا، أم أننا نخلق بأيدينا وضعاً اجتماعياً قد تحرجنا بعض نتائجه على الصعيد الدولي والسياسة الخارجية ذات يوم؟ ينتقل د. أسيري في مناقشة العامل السكاني وآراء الباحث «بوزان» إلى مسألة «الصراع بين أبناء الإثنيات المختلفة» في المجتمعات، ويخصص فقرة عابرة مضغوطة للإشارة إلى التركيبة الطائفية في الكويت، إذ لا مجال للتوسع هنا في الحديث عنها في كتاب عن السياسة الخارجية! غير أنه يتناولها دون نقص في الجرأة التحليلية، فيقول:«تشير التقديرات إلى أن الشيعة يشكلون أكثر من 25% من سكان البلاد ويتمتعون بوجود سياسي قوي ومؤثر خاصة في القطاع التجاري، إضافة إلى الصراع الفئوي بين الحضر والقبائل الذي ظهر على الساحة بشكل أكبر مع تزايد نسبة القبائل في مقابل الحضر». وهنا أيضاً يقول المؤلف الباحث القليل عن الكثير ويوجز حيث يتحتم بعض الشرح ربما في فقرة كاملة.ويمر د. أسيري بقضية حولها جدل معروف دون نقاش وذكر مصادر، وهي قوله «إن الشيعة يشكلون أكثر من 25% من سكان البلاد»، فمن غير الواضح هل يقصد السكان الكويتيين أم كافة المقيمين، وتدل إحصائيات أخرى على أن نسبة الشيعة أقل بين المواطنين، فالباحث المعروف في قضايا الانتخابات «د. صالح بركة السعيدي» يقول في كتاب «السلطة والتيارات السياسية في الكويت، 2010»، ما يلي «تبين آخر إحصائية لأصوات الناخبين في الكويت عام 2009 أن مجموعة الناخبين الشيعة يصل إلى ما نسبته 15.8% من إجمالي الناخبين، بعدد تجاوز الـ60 ألف صوت من أصل 384 ألف صوت هو المجموع الكلي للناخبين». (ص139). وتحدد مصادر أخرى نسبتهم إلى السكان بنحو 20%... إلخ، ومن المعروف إحصائيا تراجع نسبة الحضر عموماً شيعة وسنة في هذه المرحلة لمصلحة المكون القبلي، ولا شك أن هذا التراجع يشمل نسبة الشيعة.وينتقل د. أسيري إلى دراسة هذا المؤثر في السياسة الخارجية للكويت فيقول: «أما عن تأثير هذا الأمر على سياسة الكويت الخارجية، وتحديدا العلاقة مع إيران، فمن المهم الإشارة إلى أنه في ضوء التماسك الاجتماعي داخل الكويت فإن هذا الأمر لم يؤثر سلباً على العلاقات مع إيران الدولة الشيعية الأقوى في المنطقة، فعلى مدار التاريخ الحديث شهدت العلاقات بين الدولتين بعض الشد والجذب، إلا أن فترة التوتر اقتصرت على ثماني سنوات هي فترة الحرب الإيرانية- العراقية، ولكن الفترة من 2011 تشهد مظاهر توتر وتجاذب طائفي كانعكاس للتوترات الإقليمية خصوصا في العراق وسورية، وظهور تيارات سياسية متشددة، وتزايد أهمية هذا العمل مع استشراء ظواهر الصراع المذهبي والعرقي التي أتت مع عواصف الربيع العربي، وخاصة في البحرين والعراق وسورية واليمن». (ص38).ومما لا جدال فيه أن مصالح الكويت الاستراتيجية تتطلب علاقات حسن جوار مع الجمهورية الإيرانية واستقرار الروابط، رغم صعوبة ذلك، مع كثرة التصريحات المتشددة عادة والاستفزازية أحياناً، الصادرة عن بعض الرسميين والبرلمانيين والحرس الثوري في إيران، والتي تضر بمصالح الطرفين، وتضطر حتى الخارجية الإيرانية إلى نفيها أحياناً. ففي أغسطس 2012 مثلا، نفت السفارة الإيرانية في الكويت تصريحاً من هذا القبيل أحدث زوبعة حادة واستهجاناً واسعاً في الإعلام ولدى الجهات الرسمية التي اعتادت على صدور بعض التصريحات المماثلة من المسؤولين هناك. وقد تناول الكاتب حمد سالم المري التصريح في مقال بعنوان «لاريجاني... الوجه الحقيقي لإيران»، (الوطن 23/8/2012)، قال فيه مشيراً إلى العديد من الأحداث المماثلة: «على الرغم من نفي السفارة الإيرانية في الكويت التصريح المنسوب إلى رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني، والذي نقلته قناة المنار التابعة لحزب الشيطان عبر حسابها على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» عندما قالت على لسانه «إذا كانت الصهيونية الأميركية تحاول أن تسقط الأسد فنقول لها بكل صراحة إذا سقطت سورية اليوم فذلك يعني سقوط الكويت غدا، وافهموها كما شئتم». وقوله «لدينا عمق استراتيجي وشعبي هام ولن نتنازل عنه، ونصف الشعب الكويتي موال لولاية الفقيه العظمى».وأضاف المري مهاجماً نفي السفارة: «قد لا نصدق هذا النفي لعدة أسباب أهمها التدخل الإيراني المستمر في الشؤون الداخلية لدول الخليج العربية ومنها دولة الكويت، وإلقاء القبض على شبكة التجسس الإيرانية أخيرا، وتهديدات القيادات الإيرانية السياسية والأمنية الإيرانية باستمرار بإغلاق مضيق هرمز، وقصف مواقع حيوية في بعض دول الخليج العربية في حالة قيام الولايات المتحدة الأميركية بتدخل عسكري ضدها، وكأن دول الخليج هي من ستستخدم القوة العسكرية ضدها وليست أميركا».سنتحدث عن العاملين العسكري والسياسي في المقال القادم.