يعرب أميركيون كثر اليوم عن تفاخرهم الأخلاقي من خلال الغضب إلى حد السخرية، ويعجزون عن إصدار الأحكام الموضوعية بشأن سياسات الماضي، وبشأن شخصيات تاريخية ناقصة أرغمتها الظروف المتداعية على اتخاذ قرارات صعبة بالاستناد إلى معلومات غير مكتملة، لذلك تحتاج الأمة اليوم إلى مثال عن كيفية تقييم الحقبات المليئة بالأسى بهدوء.جاء هذا المثال على محطة PBS، التي عرضت طوال عشر ليالٍ السلسلة الوثائقية «حرب فيتنام» لكين بورنز ولين نوفيك، اللذين أمضيا عشر سنوات في إعداد هذا العمل بساعاته الثماني عشرة، تروي سلسلة «حرب فيتنام» قصة حرب «بدأها أناس خيّرون بنية حسنة انطلاقاً من سوء فهم مصيري» و«أُطيلت لأن التخبط وسطها بدا أكثر سهولة من الإقرار أنها نجمت عن قرارات مأساوية»، اتُخذت خلال خمسة عهود رئاسية. أفلام القتال ممتازة أما ذكريات وخواطر المحاربين وغيرهم من كلا الطرفين فتفوقها تميّزاً، عارضةً صوراً لهم آنذاك إلى جانب مقابلات مع كثيرين منهم اليوم.
تُظهر صورة تعود إلى عام 1951 عضواً في الكونغرس يُدعى جون كينيدي وهو يتناول الطعام في سايغون، يضم هذا العمل أيضاً مقابلة مع لي كوان كونغ، الذي أصبح مقاتل ميليشيات عام 1951 حين كان في الثانية عشرة من عمره. كذلك يتعرف المشاهد إلى «مدام لي مينه كيو»، التي كانت في السادسة عشرة من عمرها عندما انضمت إلى «لواء شباب الصدم للإنقاذ الوطني». تقول: «أحببت هيمنغواي وتعلمت الكثير من روايته For Whom the Bell Tolls (لمن تُقرع الأجراس)، مثل قوة حيلة الرجل الذي دمّر الجسر، لاحظت كيف تكيّف مع الحرب وتعلمت من تلك الشخصية»، شأنها في ذلك شأن محارب آخر أحب تلك الرواية: جون ماكين.بعد أحد عشر عاماً من تناوله الطعام في سايغون، أعلن الرئيس جون كينيدي: «لم نرسل قواتٍ مقاتلة بالمعنى المفهوم عموماً للكلمة»، وهكذا ساهمت المواربة والتهرب في تمهيد الانحدار إلى حرب الاستنزاف البرية، كان كينيدي، وخلفه، ومستشاروهما عاقدي العزم على ألا يكرروا خطأ ميونخ بمواجهة العدو متأخرين. تبدو شرائط محادثات ليندون جونسون الهاتفية مع مستشاريه مخيفة ومريعة، إذ قال لمستشار الأمن القومي ماكجورج باندي: «ما الهدف اللعين من توجيهي الأمر بإرسال [أولئك الأولاد] إلى هناك؟».في عام 1966 وحده أدى 18 هجوماً أميركياً واسع النطاق إلى تشريد أكثر من 3 ملايين فيتنامي جنوبي (نحو خُمس سكان البلد)، وأُلقيت على جزء ممر هو تشي منه الواقع في لاوس وحدها أطنان من القنابل (3 ملايين طن) تفوق ما أُسقط على ألمانيا واليابان خلال الحرب العالمية الثانية. وفق عدد القتلى كانت الولايات المتحدة تنتصر، ولكن كما ذكر أحد المستشارين في الحلقة الرابعة، «إن كنت تعجز عن إحصاء ما هو مهم، تجعل ما يمكنك إحصاؤه مهماً».يتذكر كارل مارلانتس، باحث حاصل على منحة رودس من جامعة يال، وترك أكسفورد طوعاً للالتحاق بالبحرية في فيتنام، ضابطاً زميلاً وهو يتصل لاسلكياً بمقر الكتيبة على بعد 20 كيلومتراً ليعلمه أنه رصد موكباً من الشاحنات، فرد قائد الكتيبة إن هذا مستحيل لأن عملاء الاستخبارات أفادوا أنه ما من شاحنات في الجوار، فأجابه الضابط بلهجة أهل تكساس: «كن على علم أنني أنا هنا وأنت هناك، أنا أرى شاحنات لعينة».بعدما سئم مارلانتس من سماع الكثير عن التحذير الذي تعلمته الولايات المتحدة بقسوة في الهند الصينية ويُعرف بـ«متلازمة فيتنام»، قال: «إن كنا نقصد بمتلازمة فيتنام الاعتقاد أن الولايات المتحدة (أ) لن تشارك مجدداً في تدخلات عسكرية في حروب مدنية أجنبية من دون أهداف واضحة واستراتيجية خروج جلية، (ب) فلن تخوض مرة أخرى عملية «إعادة بناء الأمم» في دول نجهل تاريخها وثقافتها، و(ج) لن تضحي بأولادنا حين لا تكون حياتنا، أسلوب عيشنا، أو «حكومة الشعب، من الشعب، وللشعب» مهددة مباشرةً، يجب إذاً ألا نتخلص من متلازمة فيتنام لأنها ليست مرضاً بل لقاحا»، ولا شك أن تحفة بورنز ونوفيك تشكّل، وفق كلمات مارلانتس عن كتاب بودن، «جرعة قوية تعزز هذا اللقاح».* جورج ويل* «ناشيونال ريفيو»
مقالات
لنتذكّر فيتنام
21-09-2017