«يوميات توتة»... فصول ممسرحة من الحرب اللبنانية
ليس مصادفة أن تختار الكاتبة والمخرجة نادين أبو زكي شجرة توت لتجعلها محور أحداث مسرحية «يوميات توتة» التي قدمتها على خشبة مسرح المدينة في بيروت، فهي تندرج في عمق التراث اللبناني، وكانت على مدى عصور الركيزة الأولى للاقتصاد، فعلى أوراقها تُربى دودة القز التي تعطي الحرير، وقد اشتهر لبنان بهذه الحرفة حتى النصف الأول من القرن العشرين. من هنا أرادت أبو زكي أن تكون هذه الشجرة بالذات الشاهد على مراحل من حياة المجتمع اللبناني بأفراحه واحزانه، متوقفة عند مرحلة الحرب اللبنانية التي جرّحتها تماماً كما جرّحت غيرها من اللبنانيين، موجهة من خلالها رسالة بيئية بضرورة الحفاظ على الطبيعة.
من خلال أداء مسرحي تفاعلي (ضنا مخايل ورويدا الغالي)، وراقص (جان بول ميهانسيو)، وموسيقي (طوني علية)، على مسرح تتوسطه شجرة توت ممددة على الأرض، بعدما قطعت حين انتهت مهمتها بهدف تشييد عمارة مكانها، تمر أمام المشاهد أحداث من زمن لبنان الجميل، زمن الخير والحب والسلام، ومن زمن لبنان المضطرب، زمن القتل والخطف والتدمير، وتمرّ أجيال وأجيال أمام هذه الشجرة الشاهدة على التاريخ، فينخرط المتفرّج لا شعورياً في هذه اللعبة المسرحية طارحاً اسئلة حول الحياة والمصير بعد الموت، حول ما جرى في لبنان، حول قضايا وإشكاليات بعضها زال وبعضها الآخر مستمرّ لغاية اليوم. في أدائها دور شجرة التوت، أجادت ضنا مخايل لدرجة أن المتفرج يخال نفسه حقاً أمام شجرة وليس أمام ممثلة، ما ينمّ عن قدرة عالية في التمثيل، كذلك نجحت رويدا الغالي في أداء مراحل من حياة المجتمع من خلال مسيرتها الحياتية، منذ الطفولة وصولا إلى الحب والزواج فالحرب، التهجير، القتل فالتدمير...
أسئلة وجودية
هل للأشجار ذاكرة؟ هل تتمتع بالوعي؟ هل تتواصل مع محيطها؟ هل تسمع وتشم وتشعر؟ كيف تتفاعل عاطفياً مع البشر؟ هل تتألم، هل تفرح، هل تحزن؟ ما هي مسؤوليتنا كبشر تجاه الطبيعة والبيئة في عصرنا الرقميّ؟ هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها المسرحية من خلال حوار يمزج بين الفلسفة وبين الواقع، محافظاً على وضوح في طرح الأفكار، بحيث ينفذ إلى أعماق الفئات كافة، بغض النظر عن مستواها الفكري... وغالباً ما تزدحم المشاهد بأناس كثر كبار وصغار من أجيال مختلفة في حلهم وترحالهم في وجعهم ومعاناتهم وموتهم، يمرون أمام هذه الشجرة النابضة بالحياة، فتحميهم بغصونها الوارفة حيناً وتعجز عن إبقائهم إلى جانبها حيناً آخر، لأن الحرب اقوى منها والتهجير فرض نفسه. تروي الشجرة علاقتها بما ومَنْ حولها... تفشي الشجرة بيرام عن أسرارها مع الزنزلختة تيسبي ومع البشر: تهمس بأفراحها ومخاوفها وغضبها. من خلال قصّتها، تنساب قصص مؤثرة عاشها الناس المتفاعلون معها والقاطنون في محيطها. إنها شجرة محورية شهدت تفاصيل حياة أهل الدار الحميمية.يستلهم هذا الأداء المسرحي من دروس التاريخ ليتجسد بالرقص والكلمة والموسيقى والواقع بأبعاده الفلسفية، حين يعانق الفن الطبيعة في أجسادٍ تروي «يوميات توتة»، لذا لا يمكن إدراج المسرحية ضمن نوع معين، بل تجمع انماطاً مختلفة، من مسرح وجودي إلى مسرح فلسفي إلى مسرح سريالي، إلى مسرح واقعي... مركزة في الدرجة الأولى على أداء الممثل وليس على الديكور أو الحوار القائم على الإيحاءات، فالممثل هو المسيطر على المسرح بتفاعله مع الحوار والموسيقى ومع السينوغرافيا والإضاءة (علاء ميناوي)، وجاءت الملابس (بشارة عطاالله)، أحد العناصر الرئيسة التي تخدم الأفكار من دون فلسفة او تعقيد، ما يشير إلى أن كل ما في هذه المسرحية مدروس بإتقان. اللافت أن في بعض المشاهد تبرز شخصية أبو زكي الرسامة التشكيلية والنحاتة، لا سيما في حركات الممثلين، فيشعر المتفرج بأنه أمام عمل غني يدمج بين فني التمثيل والنحت بحرفية وقعتها كاتبة ومخرجة عاشت معاناة الناس والبيئة وأرادت تجسيدها بابعادها كافة على المسرح.فريق العمل
نادين أبو زكي، ناحتة وكاتبة. أعمالها معروضة أمام وزارة السياحة اللبنانية ، والسفارة الفرنسية وغرفة التجارة والصناعة في بيروت. آخر أعمالها أداء تفاعلي في «مهرجان بيروت الدولي للرقص المعاصر»، ومعرض بيروت للفن، بالتعاون مع غاليري أجيال. حازت دكتوراه في الفلسفة في جامعة السوربون، أستاذة محاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت. جان بول ميهانسيو، راقص ومصمم رقص، ولد في ساحل العاج. تخرج في المعهد الوطني العالي للفنون والنشاط الثقافي في أبيدجان، التقى مصمم الرقص الشهير أوليفييه دوبوا الذي اختاره كراقص رئيس في فرقته. يعمل مع مصممي الرقص الأكثر موهبة في أفريقيا، لديه مشاريعه الخاصة، من بينها «مرآة عن الهوية» و«ما وراء الحدود»، وهو عرض حول الهجرة واللاجئين من منظور أفريقي.ضنا مخايل خريجة مسرح من «تاك» في ألمانيا، قامت بأداء تمثيلي منفرد في «ميديا» من إخراج كارول عبود في مسرح بابل (2012)، نالت جائزة أفضل ممثلة في «جوائز الفيلم الدولي- برلين» عن دورها في «سور تون سين» من إخراج فرج عون.رويدا الغالي، ممثلة وأستاذة جامعية. شاركت في ورش عمل التعبير الجسماني في أميركا وفرنسا وروسيا، وفي تأسيس فرقة «استوديو11». كذلك شاركت كمحاضرة وميسرة مهرجانات عربية وعملت مع مخرجين لبنانيين وعالميين. قدمت أعمالها في بيروت، فرنسا، أبيدجان، طوكيو وإسبانيا. تعالج في أطروحتها موضوع دراماتورجية الحركة في المسرح الجسماني.
أداء مسرحي مستلهم من دروس التاريخ ليتجسد بالرقص والكلمة والموسيقى والواقع