شاعر البلاط سارق
يقول النقاد العرب قديما إن احتمالية وقوع الحافر على الحافر ممكنة، وهم بذلك يشيرون إلى أن تكرار معاني قصيدة ما في قصيدة لشاعر آخر أمر ممكن الحدوث. وهو كلام لا غبار عليه عندما يخص المعاني. أما أن تتطابق قصيدتان بشكل مريب، فالأمر يتجاوز المعاني والأفكار إلى السرقة الكاملة والمقصودة، وهو غش محض يقوم الشاعر من خلاله بالسطو على جُمل وتراكيب شعرية كاملة، وبتحريف بسيط لا يدفع الشك عن عملية السرقة والغش. وربما أقسى عملية سطو على قصيدة شعرية كانت لشاعر عربي شاب ألقى علينا ذات يوم في النادي الأدبي في الرياض قصيدة بدأها هكذا:أدر مهجة الصبح / صبّ لنا وطنا في الكؤوس/ يدير الرؤوسوأكمل القصيدة والحضور يستمعون بكل أدب للشاب الشاعر، وحين انتهى قال أحدهم بهدوء "يا بني هذا كلام الثبيتي"، ولم يخجل الشاب وهو ينسب قصيدة شاعر سعودي لنفسه ويقرؤها أمام أهله. وقال "كلما قرأت القصيدة قالوا إنها للثبيتي، ولا أعرف من هو الثبيتي". كانت تلك أوقح عملية سرقة عرفتها بحياتي. اختفى الشاب، وبقيت القصيدة لشاعرها الأصلي.
لم يكن هذا الشاب شاعرا مهما، ولا أتذكر حتى الآن اسمه أو ملامح وجهه، لكن السرقة التي يتناولها الوسط الأدبي في كندا هي لشاعر البلاط أو الدولة، والتي نالها عام 2009 حتى عام 2011. الشاعر بيير دي روسو، الذي وُلد عام 1945 وتوفي عام 2016، وهو في أوج شهرته، وإن لم تتجاوز بعيدا إلى العالم، في زمن لم يعد الشعراء يُحتفى بهم كما هو الأمر في الماضي. الشاعر دي روسو شاعر اللغة الفرنسية، وأحد رواد الثقافة في المنطقة الفرنسية كويبك، وهو أيضا مترجم، لكن ترجمته هنا تختلف عن المفهوم الذي نعرفه. ما يقوم به شاعر البلاط هو ترجمة أشعار من لغات أخرى، ونقلها للفرنسية، موقعا عليها اسمه.بدأت القصة حين لاحظت الشاعرة الكندية كاثي فيغورو تشابها كبيرا بين قصيدة للشاعر دي روسو والشاعرة الأميركية مايا أنجلو "مازلت أعلو"، فطلبت من الباحث أو التحري البريطاني الشاعر إرا لايتمان التحقق من إمكانية سطو دي روسو على قصيدة أنجلو. ما خرج به الباحث كان فضيحة كبرى. فديوان الشاعر دي روسو "شرائح الحياة" يحتوي على 47 قصيدة، منها 30 قصيدة مسروقة بالكامل من شعراء مثل لوركا وتيد كوسر وآنا اخماتوفا، وصولا إلى مغني الراب توباك. لقد مات الشاعر الذي شكَّل في حياته حضورا شعريا كبيرا استطاع من خلاله أن يقدم للجانب الفرنسي في كندا شعرا منحولا بالكامل من لغات أخرى دون أن ينتبه إليه أحد إلا بعد رحيله. وحين طالب الباحث ناشر الديوان بسحبه من المكتبات لم يكن تم توزيع أكثر من خمسين نسخة، وتم فعلا سحبه من الأرفف. أما الناشر، والذي اعتبر مشاركا في الفضيحة ومتهما بالجهل، فأرجع ما فعله الشاعر الكبير إلى خلل صحي يعانيه، وليس خللا أخلاقيا. ذلك ليس عذرا منطقيا، فالشاعر كان يغيّر كلمات القصائد بقصدية ووعي، فمثلا في قصيدة مايا انجلو "تستطيع أن تكتبني في التاريخ بأكاذيبك المرّة والملتوية"، وفي قصيدة دي روسو "تستطيع أن تحذفني من التاريخ بأكاذيبك الملتوية"، وهكذا في بقية القصائد التي ترجمها الشاعر إلى الفرنسية، وضمها في ديوانه. رحل الشاعر وهو يحمل مجده كاملا، فهل يعنيه الآن أنه سرق أحدا أو لم يسرق؟