«لن أكره!»
هذا عنوان كتاب، من أرقى الكتب التي قرأتها، إنه قصة حياة طبيب فلسطيني، نشأ في مخيمات غزة، وما أدراكم ما غزة وما مخيماتها؟! كثيرون سمعوا عن غزة، لكن قليلين عرفوا شكل الحياة فيها، إنها شريط ضيق من الأرض، طوله 25 ميلاً، وعرضه 4 إلى 9 أميال، يسكنها أكبر كثافة بشرية على وجه الأرض، تعيش في مخيمات، تحت خط الفقر، وتعاني حصاراً، يعد الأشرس من نوعه، محرومون من كل شيء، لا غاز، لا كهرباء، لا تأشيرة خروج، ولا أبسط حياة إنسانية لائقة.من رحم هذه المعاناة القاسية، ومن عمق هذه المخيمات الخانقة، من مخيم جباليا، خرج طبيبنا، ليروي للعالم قصة معاناته ومعاناة الفلسطينيين ومآسيهم وصبرهم وإرادتهم الحياة، وليؤكد: أنه برغم قسوة المعاناة، وظروف الإذلال والظلم واليأس والغضب والعنف والحصار، وفقد بناته الثلاث، في العدوان الإسرائيلي على غزة يناير 2009 خرج ليقول: لن أكره! وسأستمر على العمل من أجل التحرر من المرض والفقر والجهل والقمع والكراهية والاحتلال، والكفاح في سبيل الحرية والسلام والكرامة، وأن يلهم هذا الكتاب الأشخاص الذين فقدوا الأمل، اتخاذ خطوة إيجابية لاستعادته، ولكم أن تتخيلوا: كيف أنتجت هذه المعاناة الرهيبة، لهؤلاء اللاجئين في تلك المخيمات، ولهؤلاء البشر المحرومين من كل شيء، أعلى نسبة من خريجي الجامعات والحاصلين على الدراسات العليا عالمياً! إنه دهاء التاريخ! بل إنها إرادة الحياة لهذا الشعب المقاوم، الذي لا تقهر إرادته، وقوة الأم الفلسطينية المكافحة، من وراء كل ذلك، فهي التي كتبت قصة بقاء الشعب الفلسطيني، وهي البطلة العظيمة التي تقف وراء تصميم الفلسطينيين وإرادة الحياة.
يرجع المؤلف الفضل فيما حققه إلى أمه وزوجته، فيقول عن أمه: إنها كانت ذات شخصية قوية، وشجاعة، وقدوة عظيمة، تتولى القيادة الاقتصادية، تربي المعز والطيور في مساحتهم الصغيرة في المخيم، تستهلك بعض المنتج من الحليب والبيض، وتبيع الباقي، ويتذكر استعداده لأول يوم مدرسي، حين ألبسته أمه ملابس مستعملة، أعيدت خياطتها مرات عديدة! ولما بلغ السابعة، كان ملزماً بمساعدة الأسرة، فكانت أمه توقظه الثالثة صباحا، ليكون أول الصف في مركز توزيع الحليب التابع لـ"الأونروا" حين يفتتح السادسة صباحاً، كي يتمكن من الحصول على حصص الحليب مبكراً ثم بيعها للراغبات في عمل الجبن واللبن، ثم كان عليه الجري للوصول إلى المدرسة في موعدها. وعن مسيرة الألم والمعاناة اليومية، يتحدث: كانت هناك أوقات كرهت فيها حياتي، وكرهت البؤس الذي عشنا فيه والفقر والحرمان، وإيقاظي في الثالثة صباحاً من سبات عميق، كرهت نفسي، وهذه الحياة، لكني اليوم عندما أنظر خلفي أشكر مروري بهذا كله، وأشعر بالعرفان للمعلمين الذين عززوا طاقتي، ومنحوني الثقة بالنفس كي أستمر. وعن أهمية التعليم في حياة الفلسطينيين، يقرر: كان التعليم هو الوسيلة الوحيدة للخروج من الظروف التي كنا فيها، وباعتباري الابن الأكبر كنت أشعر بأنني يجب أن أكون قدوتهم، كنت أجلس على أرضية منزلنا ذي الغرفة الواحدة، أؤدي واجباتي المدرسية على ضوء مصباح كيروسين، أحاول فصل نفسي عن ضوضاء إخوتي الصغار حولي. أما عن زوجته التي فجع بموتها مبكراً باللوكيميا، فيذكر أنها كانت تصر على عدم إشغال الأولاد عن الدراسة، تريدهم أوائل، لا المراكز الثانية، وعن مهارتها في الخياطة: كانت نادية ماهرة في استخدام ماكينة الخياطة، كانت تدهشني الطريقة التي يمكنها بها تفصيل أي قطعة ملابس، وضبط أطوال بنطلونات أو أكمام أي شخص، وتعديل ملابس الكبار كي يلبسها الصغار!أخيراً: هذا كتاب جدير باهتمام القرّاء، وبخاصة الأطباء، أصحاب أنبل مهنة إنسانية، إنه ليس قصة طبيب وصل إلى العالمية في تخصصه "أمراض العقم" فحسب، إنه وصفة علاجية للتحرر من الكراهية، وخصوصا أننا جميعا بحاجة في هذه الأجواء المتوترة إلى ما يجدد الأمل في نفوسنا، ويحصنها من الكراهية، ويبقى أن أقول إن هذا الكتاب لمؤلفه الطبيب عزالدين أبو العيش، حظي بأفضل ترجمة لـ"أحمد محمود" وأشهر دار نشر "دار بلومزبري- مؤسسة قطر للنشر 2012".*كاتب قطري