مذكرات بحار

أي بحار ذاك الذي أنطقه الشاعر محمد الفايز ليقول:

البحرُ أجمل ما يكون / لولا شعُوري بالضياع / لولا هروبي من جفاف مدينتي الظمأى وخوفي / أن أموت

عريان في الأعماق أو في بطن حوت / اني أحاذر أن أموت؟

البحار محمد الفايز، هو كل بحار ودَّع زوجته وعياله ومدينته، وسلك مغامرة البحر المريرة مجبراً يبحث عن رزقه في الإعماق بين وحوش البحر ومخاوفه، وهو في رحلته وغوصه يُحاذر أن يموت، فلا شيء يعدل الحياة والعيش مع الأهل والأحبة.

حين شدا بهذه الكلمات الفنان الكويتي عبدالعزيز المفرج عام 1979، تشاركه سناء الخرّاز، وبتلحين غنام الديكان، وبمشاركة فرقة التلفزيون، وبإخراج محمد السنعوسي، وبمسمى "مذكرات بحار"، وقتها مسَّ ذلك الأوبريت قلب كل كويتي، وأحيا وأعاد إلى الأذهان، وبإطار فني خلاب، ذكريات كانت غافية، لكنها حاضرة في الوعي والوجدان. لذا، أخذت تلك الكلمات وذاك اللحن طريقهما إلى ذاكرة الكويت والكويتيين، ولم تزل. ولأن مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي اتخذ من شعار "من الكويت نبدأ"، منطلقاً لموسمه الثقافي الأول 2016/ 2017، فقد كان الاختيار موفقاً بأن يُعاد، وبشكل فني جديد، إحياء ذلك الأوبريت الوطني، وتقديمه بوصفه يتكئ على الذاكرة الشعبية الكويتية من جهة، ويخاطب أجيالا جديدة بلغتها الراهنة من جهة أخرى.

تصدى لإخراج العمل المخرج الكويتي يعرب بورحمة، يساعده مجموعة من زملائه المخرجين الكويتيين، وبتوجيهات من مجموعة عمل فنية عالية التخصص، إضافة إلى فرقة مركز جابر الموسيقية، التي تواجه الجمهور للمرة الأولى، وتضم قرابة خمسة وسبعين عضواً بين عازف موسيقي وإيقاعي وكورال يقودهم المايسترو د. محمد باقر، ومدرب الكورال د. حمد المانع، وبتوزيع موسيقي من أ. خالد نوري. وقد شارك من المطربين لتأدية أغاني الأوبريت: سليمان العماري، مطرف المطرف، وآلاء الهندي. ويُحسب لمركز الشيخ جابر الأحمد، والقائمين على الأوبريت، أن يكون هناك عزف لموسيقى حية طوال العرض، وبما قدم رونقاً متميزاً ولافتاً، وأتمنى أن يبقى مثالاً يُحتذى به في الأعمال القادمة.

شاهدت بروفات العمل، وتابعت باهتمام الجد والمثابرة والإخلاص التي عملت بها مجاميع من أبناء الكويت، وكان هذا مصدر فرح كبير لي. فأنا أؤمن بأن أي عمل كبير يتطلب جهداً جماعياً، وأي جهد جماعي يتطلب نكراناً للذات، وأي نكران ذات يقود في المحصلة إلى عمل متجانس يذوب به التميز الشخصي في ثوب العمل الأكبر. وكانت واحدة من أهم محطات العرض، هي عودة الفنان شادي الخليج للظهور والوقوف أمام الجمهور. وإذا كان عبدالعزيز المفرج (شادي الخليج)، يظهر إلى الجمهور في المشهد الأخير، ليردد مقطعاً من مذكرات بحار، تشاركه به الصوت الواعد آلاء الهندي، فإن استقبال الجمهور، وبكل فئاته العمرية، لهذا الفنان كان لافتاً، بل كان محيراً، فما الذي يدفع بامرأة على أبواب السبعين إلى الوقوف لتهتز طرباً وبكاءً لحظة ظهور شادي الخليج؟ وكيف يجتمع ذلك مع صراخ فتاة صغيرة بحماسها، وهي لم تتجاوز الثانية عشرة؟ فما الذي أحضره شادي الخليج معه إلى المسرح والجمهور لحظة خرج بصوته الشجي ليقابلهم؟

إن ما حرك المرأة والفتاة وجمهور المسرح، هي مشاعر الحب والحماس باستقبال شيء أصيل من الفن الكويتي الوطني، الذي بقي ويبقى في وجدانهم، شيء من الفن استطاع بصدقه وإبداعه أن يشكل ذاكرة لوطن جميل ووقت جميل وفن جميل.

إن الشعوب في أي مجتمع من المجتمعات إنما تنتظر دائماً الفن والفنان الذي يحاكي همومهم وآمالهم، فناً يستطيع أن يستلهم الواقع، وأن يعكس ذلك فناً بسيطاً وعميقاً ومبدعاً. إن الذي حدث بتعطش الجمهور الكويتي للعمل الموسيقي الوطني ينطق بطلب صريح للإخوة القائمين على مجمع الشيخ جابر الأحمد الثقافي، بضرورة أن يكون في جدولهم إنتاج عمل وطني ليس لكل عام، لكن ما بين وقت وآخر، ونحن بانتظار الأجمل.