في واحدة من أكبر الأزمات التي تشهدها اسبانيا منذ تفعيل الديمقراطية بعد وفاة الدكتاتور فرانسيسكو فرانكو في 1975، دعت حكومة إقليم كاتالونيا، أكثر من 5 ملايين ناخب للتصويت في استفتاء يجرى اليوم حول الانفصال عن إسبانيا وتشكيل دولة مستقلة، وذلك رغم رفض مدريد للاستفتاء ومحاولتها وقفه.ووسط العراقيل الكبيرة التي وضعتها الحكومة المركزية في مدريد، بدا الانفصاليون الكاتالونيون مصممين على المضي قدماً في تنظيم الاستفتاء، واحتلوا عشرات المدارس التي تم اختيارها مراكز تصويت بهدف منع الشرطة من إغلاقها.
وقالت الحكومة الإسبانية، أمس، إن الشرطة أغلقت 1300 مدرسة من أصل 2315 مدرسة في كتالونيا. وقال مصدر حكومي إن 163 من المدارس المخصصة للتصويت تشغلها عائلات.وقالت سلطات إقليم كتالونيا إن الشرطة الإسبانية دهمت مركزا للاتصالات تابعا لحكومة الإقليم. وأمس الأول جالت جرافات في شوارع برشلونة وبعضها رفع راية «استيلادا» علم الانفصاليين المقلم بالأحمر والأصفر مع نجمة بيضاء على مثلث أزرق. وقد تعهد سائقو الجرافات والإطفائيون حماية مراكز الاقتراع.وقال زعيم الانفصاليين الكاتالونيين كارلس بيغديمونت أمام حشد من المؤيدين الفرحين مساء أمس الأول في ختام حملته «في هذه الأوقات العصيبة والمفعمة بالمشاعر نشعر بأن ما اعتقدناه يوما مجرد حلم، هو بمتناول اليد». وأمرت السلطات في مدريد الشرطة بضمان عدم السماح بإجراء الاستفتاء الذي اعتبره القضاء غير دستوري. ومنذ أيام تقوم الشرطة بمصادرة مواد خاصة بالاستفتاء مثل صناديق أوراق الاقتراع، في حين أمر المدعون بإغلاق مواقع انترنت مرتبطة بالاستفتاء واعتقال أعضاء رئيسيين من الفريق المنظم للعملية. وأمرت محكمة الشرطة بمنع استخدام المباني الحكومية لـ «التحضير والتنظيم» للاستفتاء. وفي وقت كررت مدريد تحذيراتها لمن يساعد في تنظيم الاستفتاء، بأنهم سيواجهون عواقب، تظاهر آلاف الأشخاص أمس دفاعا عن وحدة اسبانيا في ساحة سيبيليس وسط مدريد، بدعوة من المنظمة المحافظة «مؤسسة الدفاع عن الأمة الاسبانية».وقال رئيس وزراء إسبانيا المحافظ ماريانو راخوي، أمس، فى معرضة اتهامه لسلطات كتالونيا بانتهاك حكم القانون: «لن يكون هناك استفتاء، حيث لا يمكن لأي ديمقراطية أن تقبل انتهاك الدستور».
الرابح اقتصادياً من العملية الانفصالية
ترتكز العملية الانفصالية في إقليم كاتالونيا، على الجانب الاقتصادي بدرجة كبيرة، إذ يتهم الانفصاليون الكتالونيون مملكة إسبانيا «بسرقتهم» فيما لا يكاد يخلو خطاب حول الانفصال عن إسبانيا من أرقام اقتصادية.وفي الوقت الذي يشدد أنصار الانفصال على التكاليف الباهظة التي يتحملها إقليم كتالونيا في انتمائه الإسباني والمنافع الكبيرة التي سيحصل عليها لدى انفصاله، فإن مناهضي الانفصال يؤكدون أن تلك الخسائر تفوق المكاسب بشكل هائل.وتؤكد حكومة كتالونيا أنها تخسر 16 مليار يورو (9. 18 مليار دولار) سنويا لانتمائها إلى إسبانيا، الأمر الذي تؤكد حكومة مدريد أنه عار من الصحة.ووفقا لبيانات المعهد الوطني الإسباني للإحصاء، تشكل كتالونيا نسبة 19 في المئة من القدرة الإنتاجية في إسبانيا، إذ حققت 8. 211 مليار يورو (2. 250 مليار دولار) من الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا في العام الماضي فيما يشكل سكانها نسبة 16 في المئة من سكان إسبانيا بـ41. 7 ملايين نسمة.ويحظى إقليم كتالونيا بعدد سكان أقل من سويسرا، وبناتج محلي إجمالي شبيه ببلجيكا، مما يعني انه سيكون قادرا على البقاء كدولة مستقلة، غير أن الاقتصاديين يحذرون من أنه قد يواجه عددا كبيرا من المشكلات على أرض الواقع، بسبب عواقب القطيعة مع إسبانيا وبشكل خاص على المدى القصير.ويؤكد تقرير صدر في الفترة الأخيرة عن مصرف «كريدي سويس» أن كتالونيا سيفقد، بغض النظر عن هروب رؤوس الأموال وتكاليف اعتماد عملة جديدة وإنشاء هياكل حكومية جديدة، ما يعادل نسبة 20 في المئة من ناتجه المحلي في حال انفصل عن إسبانيا.ولمعرفة حجم ذلك يكفي النظر إلى أن هبوط الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا بنسبة سبعة في المئة بسبب الازمة الاقتصادية تسبب في نمو البطالة أربعة أضعاف والدين الاسباني ثلاثة أضعاف، وازدياد الضرائب وخفض الإنفاق العام وإلحاق الضرر بدولة الرفاهية.أما على الجانب الإسباني، فيشكل انفصال كتالونيا كذلك ضربة موجعة، فقد قال بنك «إتش إس بي سي» ان إسبانيا ستفقد 2. 411 مليار يورو سنويا (7. 485 مليار دولار) لتتراجع من المرتبة الخامسة إلى السادسة على سلم الناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي.وكانت وكالة «ستاندرد آند بورز» العالمية للتصنيف الائتماني أكدت مساء الجمعة حفاظ الديون السيادية الإسبانية على التصنيف الائتماني للديون السيادية الإسبانية عند «بي بي بي زائد» بتوقعات مستقبلية ايجابية وأن «التوتر» المفتوح مع كتالونيا قد يضعف النمو الاقتصادي.وأكدت وكالة «موديز» العالمية للتصنيف الائتماني التي ستعيد تقييم الدين العام الإسباني في 20 الجاري ان استقلال كتالونيا سيؤثر سلبا على الاقتصاد الاسباني.ورغم تأكيد وزير الاقتصاد الاسباني لويس دي غيندوس أن التأثير الاقتصادي «غير موجود إطلاقا»، فإن السوق اتخذ منحى آخر، حيث أوصى بنك «بي.جي مورغان» المستثمرين ببيع سندات الدين الإسباني واستبدالها بسندات سيادية ألمانية أو برتغالية.وحذر رئيس غرفة تجارة الولايات المتحدة الأميركية في إسبانيا، خايمي ماليت، من مخاطر فقدان كتالونيا مقرات عدد كبير من الشركات وانتقالها إلى أماكن أخرى في إسبانيا، إذا ما تبنت «حقيقة موازية» للشرعية الاسبانية بعد الاستفتاء، مؤكدا أن شركات كثيرة وضعت للتو خططا بديلة.ولعل المعضلة الكبرى التي تتجلى في هذا المسألة هي الانفصال عن أوروبا وفقدان جميع الميزات التي يمنحها والضرورية للمضي قدما في بناء «الدولة الكتالونية المستقلة»، والحديث هنا عن الصادرات سواء لإسبانيا أو لبقية الدول الأوروبية التي تعد وريدا أساسيا في اقتصاد الإقليم.ورغم تأكيد إسبانيا والسلطات الأوروبية والحلفاء الأوروبيين أن خروج كتالونيا من إسبانيا هو خروج كلي من الاتحاد الأوروبي، فإن المؤيدين للانفصال يؤكدون أن كتالونيا لن تجد عوائق في العودة تحت مظلة الاتحاد، لأن المصالح الاقتصادية ستتغلب على الجانب العاطفي في نهاية المطاف.