فتاة عادية
"فتاة عادية"، آخر عمل روائي للكاتب الأميركي المشهور آرثر ميلر عام 1992 بعمر 89 قبل وفاته.أن تأتي كتابة الرواية بكل هذا التكثيف أمر ربما كان لتقدم العمر دور فيه، فلم يعد هناك قدرة ومجال للجهد والغوص بتفاصيل التفاصيل، ولا "طولة بال" يسمح العمر بها، ما انعكس على العمل برأيي بالإيجابية والسلبية معاً. الدور الإيجابي والجيد فيها جاء من القدرة على إنتاج رواية ذات أحداث محددة بجوهر العمل، وهي فتاة من أسرة برجوازية يهودية تعرف أنها فتاة عادية لا تمتلك الجمال، لكنها ذات جسد جميل، ولن يكون الجمال عبئا عليها، تتزوج من تاجر كتب شيوعي، ليس عن حب، لكن هروبا وتحررا من تفاهة برجوازية عائلتها، ولا تجد معنى لحياتها معه، فتعود لتواصل دراستها للفن التشكيلي، وتقيم علاقة مع أستاذ تاريخ الفن المهاجر عندما ذهب زوجها إلى الحرب، وتنفصل عنه بعد عودته، لأن حياتها معه كانت بدافع الشفقة، وبعد كم سنة تقع في حب رجل موسيقي أعمى، ومعه تعرف ما معنى أن يكون المرء محبا ومحبوبا، وحينما يتوفى بعمر 68 بعد زواجه منها بـ14 سنة كانت أجمل سنوات حياتها.هذه هي كل الحكاية مكتوبة باختصار، وتكثيف شديد، متجاوزة كل التفاصيل التي كان يجب أن يحتويها العمل الروائي، التكثيف على رسم صورة تتوضح بربطها بنقاط محددة تتشابك وتتداخل وتتقاطع بسرعة خاطفة ما بين مشهد موت زوجها الموسيقي، وذهاب زوجها الأول إلى الحرب، وعودته بعد ذلك، ثم بخطفة سريعة لا تتجاوز نصف صفحة مرورا بعلاقتها مع الأستاذ، ثم لمحة خاطفة مع حوارها مع أخيها، وبعدها تعرّفها وزواجها من الموسيقي، ثم عودة إلى موته، الذي تتقبله بشجن هادئ، وتخرج إلى الشارع تتأمل المباني والأماكن، فتكتشف أن الفندق الذي عاشت فيه أجمل ذكرياتها معه بدأ العمال بإزالته لإقامة عمارة سكنية في مكانه، وهذا مقتطف يبين ما تعنيه إزالته بالنسبة لها، وبالنسبة لكاتب الرواية: "مع كل قطعة تسقط من البناء كانت سحب الغبار ترتفع في الجو. كل جيل ينتزع جزءا من المدينة، مثل النمل الذي يجر ذرات الطعام، بعد وقت قصير سوف يصلون إلى غرفتها، زحف عليها ذهول أجوف، من بين إحدى وستين سنة عاشتها لم يكن سوى أربع عشرة جيدة، وهذا ليس بالأمر السيئ، تذكرت عشرات الحفلات الموسيقية والعشاء في المطاعم، عظمة حب تشارلز واعتماده عليها، هي التي أصبحت عينيه. لقد قلب كيانها وأخرجه لكي تنظر به إلى العالم، بدلا من أن تحبس نفسها لينظر إليها العالم ويعترض عليها، واقتربت من أبواب الفندق ووقفت هناك، تحاول عبر الشارع أن تستنشق رائحة الطين الرطب، رائحة المبنى الذي كان يموت".
المشهد الأخير مكتوب بعمق وشفافية رقيقة، فيه من عذوبة الشجن الكثير، الذي عكس مشاعر آرثر ميلر، من خلال شخصية بطلته.الكتابة بهذا التركيز الشديد على جوهر الأحداث أظنها نتاج وخبرة التقدم بالعمر، فالكاتب في هذه السن تجاوز كل ما ليس له أهمية وعلاقة بجوهر الحكاية، وهو ما أعطانا رواية شديدة الاقتصاد مشغولة بتقنية نسج وغزل محترف دقيق.لكن الأمر السلبي بها، هو أنها لا تمنح القارئ الإشباع الكافي للتمتع بالعمل الروائي المبني على التحليل النفسي لتفاصيل الحياة في الرواية وعمق تشابك وترابط أحداثها، فهذا المرور الخاطف السريع للأحداث لا يترك أثره على وجدان قارئه، لأنه لا يدوس على أزرار شبكة الحواس والأعصاب الحسية المشتركة بينه وبين شخصيات الرواية ذات التجريد العالي.لكنها تبقى عملا متميزا متقنا في تقنيته وخبرة كاتبه الحياتية التي شبكها وصبها في شخصية بطلة روايته، فهي من أسرة يهودية مثله هاجرت من بولندا، ولها شقيق تاجر عقارات يعرف كيف يستغل الظروف ليقتنص الفرص الاقتصادية، مثل شقيقه، كما أن خيارات زوجها الأول تتشابه مع اختياراته السياسية اليسارية.آرثر ميلر كاتب مسرحي بالدرجة الأولى، إلى جانب كونه كاتبا قصصيا له مجموعات كثيرة، وأيضا هو روائي تحوَّلت أغلب أعماله إلى أفلام سينمائية وتلفزيونية، ومجموع أعماله الكتابية تتجاوز 37 عملا، كُتب عنه الكثير، وخاصة بعد زواجه من الممثلة المشهورة مارلين مونرو، الذي جعل حياته تحت رحمة الأضواء ومطاردة الصحافة له.