حين نأتي إلى المحور الثاني الذي يعزز نزعة المغايرة والاختلاف في مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي، وهو محور السمات الفنية، سنجد أن هذه السمات تتمثل في جملة أمور؛ منها الخروج عن القاموس اللغوي والبلاغي المعهود في لغة شوقي، فمسرحية «مجنون ليلى» تنتقي لنفسها قاموساً لغوياً مختلفاً، ليس فيه تلك «اللغة الشوقية» المعهودة في المديح والرثاء والشأن العام. صحيح أن اللغة المبذولة في المسرحية تكاد تكون لغةً «منسوخة» من قاموس قيس بن الملوّح، ومتحريةً لخطاب الشعر العذري، ومفرداته، وبيئته، وأجوائه، لكن رغم ذلك، يمكن للمتأمل أن يلمح وراء هذا الحجاب الشفيف روحاً تتطلع إلى ما هو أبعد من هيكل اللغة الخارجي، الماثل بمفرداته وصوره وأخيلته. فحديث شوقي عن «الخيام»، و»قبس النار»، و»هدر الدماء»، و»جبل التوباد»، و»رعي الغنم»، و»قُبلة ليلى»... إلخ، يكاد يكون حديثاً عن «رموز» و»إيماءات»، أكثر منه إعادة تظهير أو برمجة لماضٍ مُنقضٍ. وهي «رموز» و»إيماءات» تومض وتشير إلى ما هو أبعد وأنأى، في تصورنا، من المتعلقات الزمانية والمكانية وشخوصها الأصمّ في مواقع زمانها ومكانها. وعليه، فإن لغة «الشعر العذري» المبثوثة في النصوص المعنية ليست محاكاةً ونَسْخاً ساذجين، بقدر ما هي جسر أو قارب حالم للعبور نحو ضفة أخرى، يصعب الوصول إليها بغير هذه «الرموز» الكثيفة الموحية، و»الإشارات» الوجدانية البليغة.
ولعل ما يعزز هذا الغنى الجمالي في ظاهر الألفاظ وتنغيماتها، ما انطوت عليه من كثافة العاطفة وشجنها، وإفصاحها عن الموغل والمستكنّ من المشاعر، وانتحابها أمام الآمال الهاربة والأشواق المستحيلة. يأتي هذا الحشد من الفيض الوجداني مقابلاً مضاداً للرزانة والرصانة والمظهر المرمري البارد الذي عُرف عن شخصية شوقي الشعرية والإنسانية.وتأتي سمات أخرى في معرض التضاد والمقابلة، مثل حلول الهمس والنجوى مقابل الجهورية والخطابية، وتكريس السلاسة والعذوبة في مواجهة الرصانة والفحولة، ثم أخيراً وليس آخراً، الاحتفاء بالتقطيع العروضي القصير، وإيراد البحور السهلة أو المهملة، كالرجز والرمل والمتقارب، في مقابل نصوصه العصماء من بحور الطويل والبسيط والكامل. وكلها انزياحات شديدة الحضور في هذا النموذج النادر من شعر شوقي، ونعني به مسرحية «مجنون ليلى». رغم كل ما سبق قوله حول محاولة الكشف عن سمات الجدة والمغايرة في «مجنون ليلى»، سواءً ما تعلق منه بالخطاب الموضوعاتي وجذوره النفسية والعقلية، أو ما تعلق منه بالخطاب اللغوي والفني، فإنه يمكن القول بكثير من الاطمئنان، إن هذا العمل المسرحي ظل يحمل الكثير من ملامح الحكاية الأصلية، وملامح عصرها البيئية والتاريخية، وعناصر الموروث الثقافي والأدبي المتعلق بها.بقي أن نقول إن تلك الخلفيات الظرفية المبثوثة في مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي، ساعدت الشاعر كثيراً في عملية التخفي والتقنُّع والتوسُّل بالشخصيات والأحداث والأزياء والأقوال الماضوية، وأعطته جواز مرور شرعياً للتعبير عن دواخله وأهوائه ونزعاته النفسية دون تحفّظ. وقد كانت تلك الحِيَل الفنية المتعلّقة بتوظيف حكايات التراث، خير معين لشوقي للخروج من «متن» التقاليد، والأسوار الاجتماعية والفنية، والخطاب الشعري المطروح، نحو «هامش» الذات، وغواياتها، وحرياتها المتمناة.
توابل - ثقافات
أحمد شوقي / حديث متجدد (6)
03-10-2017