ضحينا بالمريض ليعيش الطبيب
كعادتها، تفاجئنا حكومتنا الذكية، بعد أن كانت رشيدة، بحلولها المبتكرة، فتزيد رسوم الأدوية والطبابة على الوافدين، بحجة ارتفاع كلفتها على الميزانية العامة؛ فلأن الحكومة الذكية -الرشيدة سابقاً- لا تريد معاقبة تجار الإقامات، فقد قررت معاقبة ضحاياهم، ومعهم جميع الوافدين، وفوقهم موظفوها الحكوميون! ولأن الحكومة الذكية -الرشيدة سابقاً- لم تخبرنا ولم تخبر الوافدين قبلنا، وهم الأهم هنا، عن مصير ما يدفعونه سنوياً للدولة كتأمين صحي، كان يفترض به أن يغطي تكاليفهم الصحية ويفيض، إن صحت الإدارة والنوايا، فقد لوحظت في الآونة الأخيرة زيادة حالات ضرب الكف بالكف، والتضرع بالدعاء على اللصوص والظالمين عند أبواب المستشفيات، بعد صدور القرار الترشيدي الأخير.طبعاً الحكومة الذكية -الرشيدة سابقاً- لم تبنِ قرارها على أرض رخوة، فهي عرفت ربعها واستسبعت على الوافدين، وتدرك أن كثيراً ممن يعارضها، ليمارس هوايته بالدفاع عن الإنسانية في عالم وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضية، هم من أكثر الناس اضطهاداً لهم على أرض الواقع، ولو طلبتَ من بعض المعترضين على قرار الحكومة مساعدة لبعض الوافدين وسداد رسومهم الصحية البسيطة، أو طالبته بتوفير تأمين صحي "ثانٍ" مع شركات التأمين لخدمه وموظفيه لامتعض وتبرم ورمى الكرة بملعب واجبات الحكومة الذكية -الرشيدة سابقاً- ولحس كل دعاواه الإنسانية!
المعادلة الصحية طرفاها المريض والطبيب، وبينهما الكوادر المساعدة والأدوية والمعدات الطبية، فإن كان هناك خلل في ميزانية وزارة الصحة؛ فكان الأولى النظر لبقية أطراف المعادلة ومحاولة إصلاحها، قبل النظر للمريض الذي هو الحلقة الأضعف، وعلة وجود وزارة للصحة أصلاً، فذات الكلام المكرر اليوم عن توفير الأموال وتخفيض المصاريف وتحسين الخدمات والمبررات الإنسانية المضادة كان قد قيل سابقاً عند الحديث عن تخصيص مستشفى جابر للكويتيين، وكان الأولى منذ ذاك الحين إعادة النظر مثلاً في آلية شراء الأدوية والمعدات الطبية، وزيادة الرقابة عليها وترشيدها، أو إعادة النظر في سلم رواتب الأطباء وتأثيره على الميزانية وربطه مع جودة الأداء، فالكثير من الأطباء الكويتيين المعترضين اليوم، بدعوى الإنسانية ورفض العنصرية، هم في الحقيقة سبب ارتفاع ميزانية وزارة الصحة والهدر الذي سيتحمله الوافدون عوضاً عنهم، وقد يكون سبب اعتراض الكثيرين منهم اليوم على القرار أنه سيضر بمصالحهم وعياداتهم الخاصة ونمو أعمالهم، في حال توافر البديل الحكومي الجيد للمواطن، فهؤلاء الأطباء الذين يستنزفون ميزانية وزارة الصحة هم غالباً أحد أهم أسباب تردي الخدمات الطبية في الكويت والتذمر منها، نتيجة تقاعسهم وتراخيهم في العمل الحكومي الصباحي، واجتهادهم ومثابرتهم في العمل الخاص المسائي، والأمثلة كثيرة وتعرفونها، والأنكى أنه لم يشتهر عنهم تعاطفهم مع الوافدين، أو كثرة أعمالهم الإنسانية في عياداتهم الخاصة، ليتباكوا عليها ويتمسكوا بها الآن، على حساب الدولة، ولا أظن كذلك أنه يوجد دولة بالعالم يعمل بها الأطباء في القطاعين العام والخاص في الوقت نفسه، لذا فإن كانت الدعوى إنسانية، كما نكرر، فهناك من هم أكثر قدرة على التضحية، وإن كانت الدعوى توفيراً، فالمريض يجب أن يكون آخر من ننظر إليه، أما قرار السماح للأطباء الحكوميين بالعمل في القطاع الخاص، فقد صدر في ظروف خاصة، ولأسباب سياسية واقتصادية قد تغيرت اليوم تماماً، وفوق كل ذلك فإنه ينطوي على تعارض مصالح صريح وواضح، وتشوبه شبهة عدم الدستورية، ويجب إعادة النظر فيه للمصلحة العامة و"الإنسانية" الآن، فقد يأتي من يطالب غداً، ومن باب العدالة والمساواة، بالسماح للقضاة مثلاً أو المهندسين في الجهات الحكومية بافتتاح مكاتبهم الخاصة، بالإضافة لعملهم الرسمي، فما العمل حينها؟!أما حكومتنا، فأيام "الرشيدة" كانت أرحم من "الذكية"، والله يستر من "الإلكترونية".