تناولت في آخر مقالين لي على هذه الصفحة أولى الركائز الأساسية التي جسدها الدستور في تحقيق كل من الوحدة الوطنية والوحدة العربية، وهي الدين والذي نهل منه مبادئ الشورى والتعاون والتراحم، ومن مبادئ الشريعة الإسلامية مبادئها الثابتة الكلية، كمصدر للتشريع، ونتناول في هذا المقال ركائز أخرى هي اللغة العربية والقومية العربية والوحدة الوطنية.
مقاومة التغريبوفي هذا السياق نص الدستور في المادة الثالثة على أن "لغة الدولة الرسمية هي العربية". وهو نص لا ينظر إليه الكثيرون إلا باعتباره التزاما على سلطات الدولة باستخدام اللغة العربية في التشريعات التي تصدرها والأحكام القضائية والمكاتبات الرسمية، دون النظرة العميقة إلى فحوى النص وفلسفته ومتطلباته السياسية والاجتماعية والوحدوية.فهو نص يقوم على فلسفه عربية وإسلامية غزيرة المعنى عميقة الأثر، فهو يقف سداً منيعا ضد حملات التغريب التي شنها الغرب على شعوب آسيا وإفريقيا منذ مطلع القرن الماضي، لتفويض وحدة العرب وتفتيت القومية العربية، وهدم لغة القرآن، باعتبار الإسلام أحد مقومات هذه الوحدة، وإحدى ركائز هذه القومية، وللتمكين من النفوذ الأجنبي.ولعل ما يشهد على ذلك أن دستور موريتانيا الذي صدر بعد استقلالها وتحررها من الاستعمار الفرنسي عام 1960 وقبل دستور الكويت، قد نص على اعتبار اللغة الفرنسية لغة البلاد الرسمية، وذلك بسبب الضغوط التي مارستها فرنسا على موريتانيا بعد استقلالها عنها، بالرغم من أن ثلاثة أرباع السكان في موريتانيا يتكلمون العربية، وهم يحتفظون بها بالرغم من الحرب التي شنتها جيوش فرنسا على اللغة العربية في موريتانيا بكل الوسائل، بعد استعمار فرنسا لها.والواقع أن الحرب التي شنها الاستعمار على اللغة العربية، كانت لتمكين الاستعمار من مفاصل البلاد التي احتلتها ومن روح الشعوب المحتلة وهويتها وشخصيتها، كما كانت حربا فكرية قامت بها جماعات التبشير في هذه البلاد وفي غيرها، في فيض من كتابات ملأت أسواق أوروبا وأميركا مثل كتابات سنوك هيرجرونجه ومرجليوت وزويمر وهوبار ولوي برتران.وقد تصدى لهذه الحملات علماء هذه الأمة أمثال الإمام محمد عبده وقاسم أمين ومصطفى عبدالرازق ومصطفى الخالدي، حيث رد الأول على أقاويل جبريل هانوتو، كما رد الثاني على مزاعم الدوق داركور، وناقش الثالث مقالات تتمان ولا مانس وجوتييه وتصدى الأخير للكشف عن الصلة بين التبشير والاستعمار، كما تصدى جمال الدين الأفغاني لهذه الحملات ردا على دعاوى أرنست رنان.القومية العربيةوتأتي الركيزه الثالثة من ركائز الوحدة العربية التي جسدها الدستور في المادة الأولى التي نصت على أن الكويت دولة عربية، وأن شعب الكويت جزء من الأمة العربية.فالكويت بمساحتها المحدودة التي لا تتجاوز مساحة الأرض فيها ثمانية عشر ألف كيلو متر، ولم يكن يزيد عدد السكان فيها عند صدور الدستور على 322 ألف نسمة، أراد الدستور بهذا النص أن يعصمها بالأمة العربية التي تزيد مساحة الأرض التي يعيش سكان هذه الأمة عليها على اثني عشر مليونا من الكيلومترات المربعة، تمتد من الخليج العربي شرقا والمحيط الأطلسي غرباً، والبحر المتوسط وجبال طوروس شمالا والمحيط الهندي وإفريقيا الوسطى جنوباً، وكان يزيد عدد سكانها في هذا التاريخ على ثمانين مليونا من الأنفس.فقد آمن الرعيل الأول الذي وضع هذا الدستور بأن الكويت لا غنى لها عن الأمة العربية، وقت أن كان تيار القومية العربية متألقا في سويداء هذه الأمة تشدو به الجماهير، فجاء تصديق سمو الأمير على الدستور ناطقا بهذا المعنى في الديباجة التي استهلها بالإيمان بدور هذا الوطن في ركب القومية العربية. وكان هذا الإيمان والرغبة في استكمال أسباب الحكم الديمقراطي- كما جاء في ديباجة الدستور– سعيا نحو مستقبل أفضل ينعم فيه الوطن بمزيد من المكانة الدولية.وتؤكد هذه الديباجة ما جاء في كلمة عبداللطيف محمد ثنيان الغانم رئيس المجلس التأسيسي التي ألقاها في ختام اجتماعات المجلس التأسيسي الذي أقر الدستور "كلمة أخيرة أود أن أقولها في هذه المجال، وهي أن الكويت أميرا وحكومة وشعباً يؤمنون بأن القومية العربية والوحدة الوطنية هما الطريق الصحيح الذي يجب أن تسير فيه الأمة العربية لتصل إلى الهدف الذي يصبو إليه كل فرد من أفرادها".الوحدة الوطنيةومثلما استهل الدستور أحكامه بالنص في مادته الأولى على أن الكويت جزء من الأمة العربية استهلت المذكرة التفسيرية تفسيرها لأحكام الدستور بكلمات رائعة عن الوحدة الوطنية تقول فيها إن الأصل في بناء العهد الجديد الذي قام بمثابة العمود الفقري لهذا الدستور هو:"الحفاظ على وحدة الوطن واستقراراه"، وتستطرد المذكرة فتقول "فلقد امتاز الناس في هذا البلد عبر القرون، بروح الأسرة تربط بينهم كافة، حكاما ومحكومين، ولم ينل من هذه الحقيقة ذات الأصالة العربية، ما خلفته القرون المتعاقبة في معظم الدولة الأخرى من أوضاع مبتدعة ومراسم شكلية باعدت بين حاكم ومحكوم".فالوحدة الوطنية هي الركن الركين لقيام دولة الكويت، التي قامت على أساس ما نصت عليه المادة الأولى من الدستور من أن "الكويت دولة عربية مستقلة ذات سيادة تامة، ولا يجوز النزول عن سيادتها أو التخلي عن أي جزء من أراضيها".فجاء دستور الكويت ليجمع بين الوحدة الوطنية والحلم العربي في ركب القومية العربية، وليجمع في الوقت ذاته بين الشكل المتمثل بالشعارات التي كانت تتردد بحماس شديد في الوقت الذي صدر فيه الدستور، وبين المضمون المتمثل بالتحول الديمقراطي وحقوق الإنسان التي لم يقصرها الدستور على مشاركة المواطنين في الحكم والحياة العامة، بل تعدى ذلك إلى حقوق الإنسان وحريته وحقه في التعبير عن رأيه، فضلا عن حقوقه الاجتماعية والاقتصادية، ليكون بذلك نموذجا فريدا ومتميزا بين كل الدساتير العربية التي سبقته أو التي تلته ونهلت منه، ولكنها لم ترقَ إلى تبني مبادئه السامية وركائزه الأساسية التي تقيم بنيان هذه الوحدة، شكلا ومضمونا.وللحديث بقية عن باقي ركائز الوحدة الوطنية التي قام عليها نظام الحكم في الكويت من ديمقراطية وحقوق إنسان والتي تشمل فيما تشمله حقوقه الاجتماعية والاقتصادية، وهي المقومات التي قامت عليها بعد صدور دستور الكويت بسنوات طويلة الوحدة الأوروبية.
مقالات
ما قــل ودل: التعريب والقومية العربية والوحدة الوطنية في النهج الدستوري الوحدوي (3)
08-10-2017