قتل المدينة والحداثة المشوهة
قبل سنوات بسيطة في موقف سيارات "الأفنيوز مول" اختلف طبيب أسنان لبناني من أم كويتية مع شباب كويتيين على أولوية الوقوف بموقف السيارات، بدأت القصة بجدل وكلمات قاسية، وانتهت بعدة طعنات أنهت حياة الطبيب، ووقف الناس يتفرجون مشدوهين بهول بشاعة الجريمة، حتى تأتي سيارة الإسعاف، قبل ذلك الحادث وبعده، هناك العنف الوحشي، طعن وعراك يتكرر بين كل فترة وأخرى، يشغل "مكاناً" كبيراً في صفحات الإثارة الصحافية، عنف بالشارع، عنف متواصل في قيادة السيارات، عنف نكاد نلمسه كل يوم... لماذا؟ وكيف وصلنا إلى هذه الحال...؟ ومن نكون...؟ وماذا تكون هويتنا؟ وكيف كانت وكيف أضحت اليوم؟!بواقعة قتل الطبيب اللبناني بالأفنيوز أمسكت الباحثة فرح النقيب بمشرط الجراح الماهر، لتشرح واقعنا الكئيب اليوم، وتغوص عميقاً في تاريخ الدولة، وفي تكوينها الاجتماعي، وتنظر بهدوء الباحثين للمكان، للمدينة، للسكان وتوزيعهم في المناطق المختلفة. هناك تراتبية طبقية قبل النفط حسب المكان، فهناك منطقة جبلة تقطنها العائلات من التجار ذوي الأصول النجدية، منطقة شرق تنظر للبحر وسكانها أقل حظاً في الثراء من جبلة، وإن سكنتها بعض العائلات التجارية النجدية ثم المرقاب، بعد النفط والتثمين نصل بسياسة الثروات الكبيرة، التي تدور في مكانها، وتنمو عند القلة المحظوظة، تمر الباحثة فرح على بحث زميلنا غانم النجار بأنه بحلول السبعينيات نجد نسبة 1 في المئة من السكان حصلوا على 90 في المئة من الاستملاكات العامة، بينما 99 في المئة من السكان اشتركوا في العشرة الباقية... هكذا تكون العدالة في توزيع بركات النفط ولا بلاش!
ماذا يطل علينا بين دفتي كتاب فرح، بعنوان التحول الكويتي أو "الكويت المتحولة، تاريخ حياة النفط والتمدين" (ترجمتي للعنوان)، هي الحياة الاجتماعية التي أصابها الكرب بفعل الريع النفطي، وبإدارة سياسية غرقت في بئره، والنتيجة هي تلك التقسيمات اللامنتهية بين المواطنين والتي كرستها السلطة، حضر وبدو، شيعة وسنة، تقسيم في توزيع السكان وإخراجهم من العاصمة بعد التثمين، ثم فيما بعد تقسيم الدوائر الانتخابية، وإعادة تقسيمها بما يتفق مع السياسة العليا، التي تكون دائماً قصيرة النظر في رؤيتها للمستقبل وعواقبه، ثم هناك تقسيم ثان بين الكويتيين والوافدين الذين يشكلون 70 في المئة من السكان.من جديد السؤال عن المكان، عن المدينة، عن التوحش وحالة "الغربة" التي نعيشها في قلاعنا المغلقة، عزل مكاني، فصل إبعاد، استبعاد، هي كلمات ترسم واقع "فرانكشتيني" مرعب، وتحاصرنا في الزمان - المكان، وتلقي بظلالها على مستقبل مجهول، "لم تعد هناك مساحة مشتركة نلتقي بها ونتحاور، نتفاهم ونشترك في الهوية الإنسانية، نشعر معها بالآخرين، نتلمس همومهم ونشارك أفراحهم، أسوار مادية في المكان، أنتجت حيطاناً اجتماعية عازلة، تكاثرت في بيئتها جراثيم الكراهية ومقت الآخرين".توقفوا وتأملوا بالقاموس الكويتي، قاموس أنا الخليجي، وأنا كويتي وعزومي قوية، هو قاموس النائب السابق محمد جويهل في تعريف الكويتي الحقيقي بأنه ذلك الذي كان أصله من داخل السور أو من العائلات التي كانت تسكن الجهراء والفحيحيل...! نفي واستبعاد مكاني ثم اجتماعي متواصل للآخرين، مواطنين وغيرهم، لا نعرفهم تم عزلنا وعزلهم، فهم خارج الحدود يقطنون ما بعد الدائري السادس... قاموس المناطق النائية والمناطق النموذجية، من المسؤول عن التشرذم السكاني الاجتماعي، وعن هذا التوحش، وكيف أصبحنا "جريغور سامسا" مسخ كافكا، الذي نام إنساناً واستيقظ باليوم التالي كحشرة مخيفة لا تكترث لها أسرتها، نمنا قبل النفط بشراً وصحونا بعد الثروة التي تتلاشى الآن أمساخاً وكائنات غريبة، يكرهون الآخرين، ينظرون لهم باستعلاء، وغطرسة... طبيعي هم لا يعرفونهم، هم لا يحيون بينهم، تم عزلهم في المكان، وتم سجننا في زنزانة الذات المتعالية، متعالية على ماذا... بعد كل ذلك يقفز علينا من يحاصرنا بثقافة "نسيجنا الاجتماعي"!كتاب فرح النقيب KUWAIT TRANFORMED: A HISTORY OF OIL AND URBAN LIFE يمكن شراؤه من "أمازون"، ونتمنى أن نجده قريباً مترجماً في المكتبة العربية.