«أدب رخيص»
"أدب رخيص"، هي آخر رواية للشاعر الأميركي تشارلز بوكوفسكي، وهي رواية محيرة بتحديد قيمتها الأدبية، فكاتبها يطلق عليها مسمى "الكتابة السيئة"، ويهديها لهذا النوع من الكتابات الروائية. ومن وجهة نظر النقاد تُعد رواية لا تمتلك قيمة أدبية حقيقية، لكن هناك أيضا مَن يعطيها تقديرا أكبر مما تستحقه كرواية، لأنها، برأيهم، تمثل التمرُّد على الشكل الروائي الكلاسيكي وتقاليده الفنية وتهدمها بهذا النوع من الأدب الرخيص.الرواية أحداثها لا تبتعد عن حياة مؤلفها، بل إن بطلها، وهو رجل تحرٍ من الدرجة الثانية، حياته كرجل مدمن مخمور طوال الوقت، يتنقل بين بارات مدينة لوس أنجلس، والمراهنات على سباق الخيل، ومطاردة النساء، هي ذاتها وقائع حياة تشارلز بوكوفسكي، وأيضا هي النغمات المترددة في معظم قصائده، يعيش حياته ببوهيمية وفوضوية يحكمها الإدمان والشرب، يمارس عمله بعبثية رافضة للواقع غير العادل واللاإنساني واللامنطقي، وهو ما عبَّر عنه بالضبط بقصائد تسخر من مجريات الحروب والعالم اللاهث وراء اقتصاد متوحش تتحكم فيه الديناصورات.لا شيء جديدا مفاجئا في كتابة هذه الرواية، التي تحكي عن قضايا غريبة طُلب منه التحري عنها، الأولى كانت طلب للسيدة "موت" أن يتحرى عن رجل ميت شُوهد يتنقل في أماكن مختلفة، والقضية الثانية لرجل طلب منه أن يحضر له العصفور الأحمر، والثالثة رجل ثري طلب منه الكشف عن خيانات زوجته، التي يشكك بتعدد علاقاتها، والرابعة رجل حانوتي تطارده مخلوقة فضائية، وتجعله ينفذ كل أوامرها، كانت رغبته أن يخلصه منها.
تدور حوادث مطاردات بوليسية عبثية وسريالية غرائبية بكتابة سوقية ساخرة من كل الأوضاع، مليئة بألفاظ السباب البذيء المحمل بمسميات داعرة فجة، مُثلت كثيرا بمسلسلات وأفلام أميركية صورت رجل التحري المخمور البذيء اللسان والسلوك الغريب الأطوار، تنتهي حياته العبثية بموته، وبموته يجد العصفور الأحمر العملاق الذي لم يكن أكثر من مواجهته للموت.حتى نهاية حياة المحقق بالموت هي ذاتها إرهاصات الكاتب بتوقعه وانتظاره له، فالسيدة موت هي الموت الذي يطارده بهيئة امرأة جميلة تعابثه طوال الوقت، وتنقذ حياته بمشاهد متعددة يكون فيها على شفا الموت، لكنها تأتيه في آخر لحظة لتنقذ حياته، لأنه لم يحن الوقت بعد لقطف روحه. الحياة الداعرة بهذه الرواية، وما كتبه في روايات أخرى، وأشهرها رواية "النساء" ليس لها عمق، مثل روايات هنري ميللر الفاحشة، التي تتضمن رؤية فلسفية عميقة في منظورها للحياة والعلاقات الإنسانية، وما تعنيه للرجل والمرأة، الجنس في كتابات تشارلز بوكوفسكي ليس له أي أبعاد إنسانية، ولا يحمل أي قيمة للمرأة، فهو مجرَّد علاقات بهيمية عابرة مفرغة ومجردة من عمق وقيمة الفلسفة المعاشة للتجربة.فكرة تحطيم النوع الأدبي السائد لم تأتِ بأي شيء جديد يُكرس لشكل فني وأدبي مخالف، بل بالعكس، جاءت بكتابة أقل من عادية، ربما بالفعل تقصد كاتبها أن يكتبها بهذا الشكل، ليسخر من الكتابة الرصينة.الأمر الآخر، هو أن يكون الشاعر تشارلز بوكوفسكي بذاته نموذجا لبعض حركات التمرد الشبابية، المتمثلة بحياته العبثية البوهيمية الرافضة للانصياع لنمط الحياة المنضبطة، وهذا أمر مستهجن أن يُعطى قيمة مثالية تحول نظام وأسلوب حياة شخص مدمن كسول ليس لديه أي أهداف سوى البحث عن الرهانات والعراك في البارات إلى رمز بطولة للبحث عن الحرية، وعنوان للتمرد. وهذا مقتطف من الرواية: "شربت من كأسي دون أن أنتظره. كان لدي شعور غريب. كأن لا شيء يهم، تعرفون۔ السيدة موت، موت أو سيلين أرهقتني اللعبة. فقدت حماستي. إن الوجود ليس سخيفا فقط، بل محض مشقة أيضا. فكروا كم مرة ارتديتم ملابسكم الداخلية على مدار حياتكم. الأمر مقزز، مقرف، غبي".وهذا مقتطف من الرواية: "أنا بحاجة إلى إجازة. بحاجة إلى خمس نساء، أحتاج لإخراج الشمع من أذني. سيارتي تحتاج لتغيير الزيت، فشلت في إرسال ضرائب دخلي اللعين. أحد ذراعي نظارة القراءة خاصتي مكسور. يوجد نمل في شقتي. أحتاج لتنظيف أسناني. ذاب نعلا حذائي. أعاني من الأرق. انتهت صلاحية التأمين على سيارتي. كلما حلقت ذقني جرحت نفسي. لم أضحك منذ ست سنوات. أميل للقلق حين لا يوجد ما يستحق القلق، وحين يوجد، أسكر". في النهاية، إذا لم تمنح الرواية لقارئها أي متعة، فلا قيمة لها.