«أنفض عني الغبار» لليلى العثمان إضافة مهمة لأدب السيرة الذاتية
تقارب فيه الكثير من وجع الطفولة وأحزانها المتكتمة وتستعيد وجوه الحرمان المدقع
تقدم الأديبة ليلى العثمان في «أنفض عني الغبار» إضافة مهمة لأدب السيرة الذاتية في منطقتنا خاصة، حيث يندر هذا اللون من الكتابة، وإن وجدت، فعلى استحياء وتردد.
إن تسنى لك أن تدخل بيت ليلى العثمان في زيارة ما، فسوف تطالعك أول ما تطالعك صورة مكبَّرة لأبيها، تكاد تقترب من الحجم الطبيعي، وهو مشتملٌ "بشتَه" وعقاله، جالس تلك الجلسة المطمئنة، مشع بوسامة ومهابة لا تنال منهما السنوات. ولو تصادف أن دار تعليق عن الصورة، فسوف تؤكد لك سيدة البيت، أن لا أحد يجرؤ (من الأبناء أو الأنسباء) أن يزحزح الصورة من مكانها، أو يستبدلها، سواءً في بيتها هذا، أو في أي مكان آخر تمتلكه. فبقاء الصورة شرط للعيش في المكان، ولازمة من لوازمه المقدسة. ويبدو أن الصورة ليست مجرَّد صورة. أما الرجل الرابض في بعدها الأعمق كجبل، فليس مجرد طيف يشفّ عبر الزمن، إنما بين الرجل وابنته حوارٌ لم ينتهِ بعد، وخيوط من العتب لا تبلى.
وحين تنطلق ليلى العثمان، محاولة سرد سيرتها، بل سيرتهما معاً، يهيض بها الجناح، وتتكسَّر كآنية هشة. لكنها تظل تتمسّح بأطراف "بشته" كطفلة مذعورة لا تزال تعاودها الكوابيس في غيبته الطويلة والمرهقة، كوابيس لم تقصّها عليه قط حين كان يملأ الحياة طولاً وعرضاً، وحين كان- لظله المديد وكلمته العليا- لا يكاد يرى لها وجهاً أو يسمع لها صوتاً. لكن الطفلة تستيقظ الآن– ومتى نامت حتى تستيقظ؟- لتنظر في عينيه ملياً، وتدير معه عتاباً طويلاً ومريراً ومثقلاً بتعب العمر.إذا كانت كتابة السير الذاتية أمراً شاقاً لدى عموم الكُتاب، فإنها بالنسبة لليلى العثمان أصعب وأكثر مشقة. ذلك أن محاولة فتح "صندوقها الأسود"، كما تسميه، لابد أن يريق رشاش الألوان القاتمة على البياض، أو يثير لغطاً، أو يكشف ضعفاً إنسانياً وهشاشة وقلة حيلة. أما إذا كان من يُكتَب عنه- كوالد الكاتبة– عَلَماً بارزاً في مجتمعه، فسوف تصبح المهمة أشدّ عُسراً ومشقة. إزاء هذه الورطة لا تملك ليلى العثمان إلا أن تتشبث بجرأتها المعهودة، ليس من أجل حرفة الكتابة المحضة، لكن في محاولة مستميتة منها للخلاص من أعباء طفولتها القاسية والتطهّر من أدرانها للمرة الأخيرة.
وجع الطفولة
في سيرتها (أنفض عني الغبار)، تقارب ليلى العثمان الكثير من وجع الطفولة وأحزانها المتكتمة، وتستعيد وجوه الحرمان المدقع والتوهان وفقدان الأمن النفسي والمكاني. وهي في وقوفها إزاء هذه الركام الروحي الثقيل أشد حيرة وتوهاناً، تحاول جاهدة أن تفكك أحجية "الأم / الأب"، العمودين المفارقين والمفترقين بحكم الطلاق، وما جرّه من عواقب نفسية وأوزار. إنها بصدد التفكيك– الذي اتخذ سمة البوح والاسترجاع- تعاين عن قرب ثنائية "الحب/ الكره"، التي تتلبسها إزاءهما، فتغضب وتلوم وتعاتب حيناً، ثم تعود لتصفح وتخفض جناح الذل من الرحمة. ورغم ما لفقدان ظل الأم من أثر في تكوينها النفسي، فإن الكيان الأبوي (المتزعزع) يظل أبعد أثراً وأعمق جذوراً. لكأنها تضع أسّ معاناتها في سلة الأب، الرمز الأعظم للانتماء والاحتواء المفقودين، والراعي الذي غفل عن رعيته (ربما بلا قصد)، أو اشتد في التنشئة أيما شدة، فتحوَّلت إلى قسوة وسطوة تبررهما تقاليد المجتمع وأعرافه. إن الكاتبة وهي تقصّ فصول حياتها تبدو مدركة لعنصر التناقض في شخصية الأب ذاتها، ثم في بيئتها وظروف التنشئة. فقد عرفت كل أنواع المتناقضات الفاقعة: الثراء الفاحش، والخير العميم، في مقابل المبيت على الطوى والجوع (نتيجة مظالم زوجة الأب وزوجة الأخ)، التزيّن بالذهب وفاخر الثياب، مقابل الحرمان العاطفي والقسوة، التشدد والتعنّت حيناً، ثم اللين والتيسير في مقام آخر. ووسط هذا التعقيد والإرباك كانت روحها تتوق لرغبة عظيمة تعيد صياغة الإنسان المقموع في داخلها، وهذا الرغبة هي التحرر من كل صنوف التسلط والقهر التي يمثلها الأب. وعلى عادة الطامحين في قتل الأب، لإيجاد مساحة لتحقيق الذات، تكرر ليلى العثمان هذه الأمنية في أكثر من موقع: "تمنيتُ أن يموت أبي فأخرج حرة من بيته إلى أفق يسمح لأجنحتي بالطيران". وهكذا، يظل الأب– ليس في سيرة ليلى العثمان فقط، إنما في جل أدبها- هو المحور، وهو الدائرة المفرغة التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد. وحين تقول الكاتبة في موضع آخر: "لقد أحرق أبي كل سفن النجاة"، فكأنها إزاء معضلة وجودية، وعليها، والحال كذلك، أن تجد لنفسها وبنفسها قارباً للنجاة. فكان هذا القارب هو الكتابة والبحث من خلالها عن الخلاص والشفاء.الكويت القديمة
وعليه، فهذا الكتاب لا يحكي سيرتها الذاتية فقط، لكن هو أيضاً سيرة مدينتها، مدينة الكويت إبان أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين. إن المعلومات عن مدينة الكويت القديمة لا ترد على سبيل الوصف والتقصي فقط، بل تتحول إلى لون من التوحد الشفيف بين الكاتبة ومدينتها يبلغ حدّ النوستالجيا العذبة المغموسة بخيالات هاربة وذكريات ثمينة ونادرة. وطالما شهدنا هذا اللون من التقمص والتداخل بين الكُتاب ومدنهم في السير الذاتية، فالإنسان بنهاية المطاف ليس سوى نتاج مجتمعه وبيئته، والعين الشاخصة التي تسجل، والقلب الذي ينبض. إن الحديث عن المدن في السير الذاتية يختلف تماماً عما يرد في التاريخ والجغرافيا، إنه حديث عن الحياة في تدفقها وحرارتها وامتلائها بالزخم. لم تغفل ليلى العثمان وهي تستعرض صعوبات طفولتها وصباها، أن تعرج لاحقاً على رصد فصول تالية من حياتها ممتلئة بالعافية والمباهج. فقد لانت لها الحياة، وابتسمت بعد عبوس، وأفسحت أمامها الطريق لزيجات موفقة وأبناء بارين، ومسيرة للكتابة والأدب لا تزال تقطف ثمارها. في أجزاء تالية من سيرتها، تستعرض ليلى العثمان نتاجاتها من القصص القصيرة والروايات، وتتحدث عن مسيرتها التي استطاعت من خلالها ردم هوة التعاسة والشعور بالنقص، وعن جَلَدها في تحقيق الاستمرارية والتطور وتحقيق الأحلام. ولا شك أن مساهمات ليلى العثمان في مجال القصة والرواية ستظل علامة من علامات الأدب المعاصر، ودلالة على مرحلة مهمة من مراحل أدبنا المحلي على وجه الخصوص، لما تحفل به تلك النتاجات من ملامح اجتماعية وثقافية تحيلها إلى ما يشبه التاريخ المحكي؛ بعناصره وتفاصيله ووجوهه الفارقة، فضلا عن الاحتفاء بقضايا الإنسان وهمومه، بلغة جميلة دانية وحميمية لافتة. "أنفض عني الغبار" إضافة مهمة لأدب السيرة الذاتية في منطقتنا خاصة، حيث ندرة هذا اللون من الكتابة، وإن وجدت، فعلى استحياء وتردد! ولعل هذه المبادرة تنفض الغبار عن القرائح المتلكئة، وتؤسس لهذا الأدب الشائق.
العثمان تستعرض في الكتاب سيرة مدينة الكويت إبان أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن العشرين