حوكمة الذمم والعقول قبل الأنظمة والقوانين
الحقيقة أن الحوكمة، وإن كانت تحتاج حقاً إلى قوانين وأنظمة وتشريعات، لكن كل تلك الوسائل لن تجدي نفعاً إن لم تكن هناك "حوكمة" ضمير للموظف، و"حكم رشيد" لذمة القيادي، و"إصلاح إداري" صادق في توجهات الدولة لتصحيح مسار الإدارة العامة المنحرف.
مجلس الأمة ينظم اليوم مؤتمراً شعاره "الحوكمة في دولة الكويت الإطار التشريعي والمالي والإداري"، و"الحوكمة" من المصطلحات المتعلقة بالأدوار الجديدة للحكومة التي ظهرت في تسعينيات القرن الماضي، وسماها بعض علماء الإدارة "إعادة اختراع الحكومة" أو "الإصلاح الإداري الشامل"، وكذلك "الحكم الرشيد" ومرحلة "ما بعد البيروقراطية". وقد سبق لي إعداد بحث علمي خاص بهذا الموضوع، تبين فيه أن بعض المؤسسات العالمية وضعت محاور أساسية لمفهوم "الحوكمة" و"الحكم الرشيد"، ففي رأي المفوضية الأوروبية أن عناصر الحكومة الرشيدة هي "الصراحة– المشاركة– المحاسبة– الفعالية– التوافق المنطقي"، وفي رأي منظمة التعاون الاقتصادي "احترام دور القانون– الصراحة- الشفافية– المحاسبة للمؤسسات الديمقراطية– العدل والمساواة مع المواطنين". ويبدو واضحاً أن هذه المفاهيم يتفق عليها كل دعاة الإصلاح حول العالم باختلاف مشاربهم، وليس غريباً أن تتوافق كثير من تلك المبادئ مع تعاليم الشريعة الإسلامية التي جاءت باحترام الحقوق، وتنظيم المسؤوليات، وحماية مكونات المجتمع والفرد، وبها سمي عهد الخلافة الأولى في الإسلام "الخلافة الراشدة".
يا ترى هل مشكلتنا في الكويت مع "الحوكمة" في القوانين والتشريعات؟ وهل ستحقق لنا القوانين فعلاً تلك النقلة النوعية في مجال الحكم الرشيد؟ ماذا لو أحصينا عدد القوانين التي صدرت خلال ٥٥ عاماً من الديمقراطية ولم تحقق أهدافها بسبب الجهة التي تتولى تنفيذها؟ هل تذكرون قانون "تجريم أخذ العمولات المالية" الصادر سنة ١٩٩٦؟ وهل طبق على حالة واحدة في الكويت؟ وهل تذكرون قرار مجلس الخدمة المدنية إلزام الوظائف الإشرافية في الحكومة بتقديم إقرارات بعدم مزاولتهم أنشطة تجارية، ولا حملهم وكالات شخصية للتجارة عن الآخرين الصادر سنة ٢٠٠٤؟ فهل تعتقدون أن أحداً سأل عن هذا القرار؟ وهل تعلمون أن قانون الخدمة المدنية الصادر سنة ١٩٧٩ يمنع الموظف من الاستجابة للواسطة أو التوسط بشأن وظيفته كما في المادة ٢٥ منه؟ الحقيقة أن الحوكمة، وإن كانت تحتاج حقاً إلى قوانين وأنظمة وتشريعات، لكن كل تلك الوسائل لن تجدي نفعاً إن لم تكن هناك "حوكمة" ضمير للموظف، و"حكم رشيد" لذمة القيادي، و"إصلاح إداري" صادق في توجهات الدولة لتصحيح مسار الإدارة العامة المنحرف، وكل ما أخشاه أن تنتهي مؤتمرات الحوكمة بإصدار قانون لإنشاء "هيئة عامة للحوكمة" تعين فيها الحكومة ربعها، ويضع الناس الواسطات للانتقال إليها، ثم تصبح من مستلزمات الكشخة في المجتمع، فهذا هو عصر فاشينستا الإدارة وموديلات النزاهة وتجار مكافحة الفساد، وما أكثرهم! والله الموفق.