يبدو أنه كلما توافرت لدى الدولة فرصة لمعالجة اختلالات الاقتصاد الأساسية؛ تفننت الإدارة الحكومية في تضييعها، لتكون هذه الفرصة عبئاً في المستقبل، بدلا من أن تكون عاملاً للدعم.وليس ثمة مثال على تحويل فرصة الاستفادة إلى عبء، من قرار فرض رسوم صحية على الوافدين في الكويت، اعتباراً من مطلع الشهر الحالي، الذي كثف من إجراءات الضغط المالي على شريحة العمالة الوافدة، دون أي اعتبار اقتصادي، وكأن دور الدولة هنا جباية الأموال، لا معالجة أحد اهم اختلالات الاقتصاد، وهو التركيبة السكانية.
فبنظرة عامة على واقع التركيبة السكانية في الكويت، نجد ان احصاء السكان، وفقا لبيانات هيئة المعلومات المدنية يوم الثلاثاء الماضي، بحدود 4.494 ملايين نسمة، منهم 1.362 مليون كويتي، بنسبة 30.31 في المئة، يقابلهم 3.132 ملايين غير كويتي، بنسبة 69.69 في المئة، وهي نتيجة أسوأ مما كانت عليه التركيبة السكانية المنشورة في تقرير المتابعة السنوي لخطة التنمية 2016 - 2017، وفقا لبيانات 31 مارس الماضي، عندما بلغت النسبة وقتها 30.5 في المئة للمواطنين مقابل 69.5 في المئة للوافدين، وبالطبع تبتعد الارقام الفعلية الجديدة عن نظيرتها المستهدفة في نهاية الخطة، وهي 31.2 في المئة للمواطنين، و68.8 في المئة للوافدين، مما يبين ان معالجات التركيبة السكانية باتت تعطي نتائج أسوأ، رغم التوجه الرسمي لمعالجتها!
هامشيون وعزاب
السوء في ملف معالجة التركيبة السكانية يزداد، إذا علمنا أن ما بين 40 و45 في المئة من العمالة الوافدة في الكويت من محدودي التعليم، أو دون المتوسط، ممن يطلق عليهم العمالة الهامشية، فضلاً عن ان 10 في المئة منهم من العزاب، بعد استبعاد احتساب القطاع العائلي (الخدم وما في حكمهم).هذه الأرقام توفر أرضية مهمة لراسمي السياسات، أن اي اجراءات للمعالجة يجب ان تغدو اقتصادية قبل ان تكون مالية صرفة، بمعنى ان تصب هذه السياسات في مصلحة معالجة اختلالات التركيبة السكانية، لا تعميقها، عبر تحويل النموذج المختل حاليا الى آخر صارخ، بكل ما ينتج عنه من مجتمع من العزاب ومحدودي الكفاءة. وهنا تفرز الأزمة آثارا اجتماعية وأمنية سلبية على المجتمع بشكل عام.التأمين الصحي
كان من الأجدى قبل فرض الرسوم الصحية على الوافدين -وهو ما يمكن أن يكون قرارا صائبا لو طبق وفقا للآلية السليمة- بأسعار عالية ومضاعفة عن السابق, تحويل نظام الضمان الصحي الحالي الى نظام تأمين صحي يلزم أرباب العمل بتغطية العمالة الوافدة لديهم، وفق عقود تشمل عائلاتهم أو بعض افرادها، فخلق منظومة تأمين صحي من خلال أرباب العمل للعمالة الوافدة يعطي ايجابايات كثيرة، أبرزها الفائدة المالية من ناحية وجود شركات تأمين مرخصة وذات مراكز قانونية تدفع الاستحقاقات للدولة، وأخرى اقتصادية ترتبط بتقليل جاذبية تجارة البشر عبر الإقامات، لارتفاع الكلفة على العاملين بها، فضلا عن اعادة هيكلة نوعية العمالة الوافدة، لأن ارباب العمل سيحتفظون بالأكفأ والأفضل، على المستوى المهني والعملي.التركيز على الجباية
مشكلة الإدارة الحكومية في التعامل مع ملف التركيبة السكانية لا تختلف كثيرا عن التعاطي مع ملفات تنويع مصادر الدخل، أو زيادة الايرادات العامة مع المواطنين، وإن اختلفت في الشكل، فالتعاطي دائما يرتكز على الجباية المالية، وهو ما ينسحب على العديد من الاجراءات؛ كرفع أسعار الكهرباء على القطاعات العقارية التجارية والاستثمارية، تحت وطأة الضغط المالي، وهو أمر لن يمس فقط الوافدين، بل يتعداهم الى المواطنين أنفسهم.فزيادة الجباية المالية على شريحة الوافدين سينعكس سلبا على المواطنين، لأن أصحاب الدخل المتحرك، أعني الوافدين الذين يرتبط معظمهم بأعمال حرة صغيرة كانت أو كبيرة، سيحمّلون التكاليف الجديدة في موازناتهم الشخصية، كارتفاع أسعار الكهرباء والماء، فضلاً عن أسعار البنزين والرسوم الصحية، على أصحاب الدخل الثابت، وهم المواطنون، أي الموظفون في القطاعين العام والخاص، وبالتالي فإن الضغوط التضخمية ستصيب السوق كله، دون أن تعرف الفرق بين مواطن ووافد.استثناءات
ولعل استثناء وزارة الصحة بعض الحالات من شمولية الرسوم، بعد أقل من 10 أيام من تطبيق القرار، يوضح جانبا من عدم مهنية القرار وزيادة الجرعة الشعبوية فيه، لا سيما في ظل وجود سياسة تستهدف تحصيل الايرادات المالية، على حساب النتائج الاقتصادية. كذلك، هناك آثار سلبية كثيرة بالمفهوم التنموي لزيادة اسعار الرسوم الصحية، دون وجود بدائل تأمينية، أولها أن العلاج غير المتاح سيؤدي الى انتشار الامراض في المجتمع، والتأثير السلبي على الصحة العامة للوافدين والمواطنين، ولهذا الأمر نتائج انسانية واقتصادية ومالية، وانعكاسات سلبية على سمعة الكويت الدولية، وهي محاذير تحقق سلبيات عديدة، رغم ان المقصد منها هو تحقيق المنفعة.وسواء ارتبط الأمر بالمواطن أو الوافد، فإن ارتباط الاصلاح الاقتصادي بعقلية الجباية المالية هو خطيئة على المدى الطويل، لأن الإضرار بنوعية العمالة الوافدة المؤهلة والمدربة سيزيد من اختلال التركيبة السكانية، لا من الناحية العددية، بل من جانبها الآخر النوعي، فيبحث المتميز عن بيئة عمل أفضل، وتبقى الشريحة الأخرى من محدودي الكفاءة والتعليم والخبرة، وهو أمر أكثر خطورة من الاختلال العددي. لذلك، من المفيد القول إنه شتان ما بين تعديل التركيبة السكانية والضغط على الوافدين، بما ينعكس سلبا على المجتمع ككل.