«قضية رقم 23»!
هذا الفيلم «مسؤولية كاتبه ومخرجه، ولا يعبِّر عن المجتمع اللبناني في واقعه الراهن»، عبارة لها مغزاها تصدرت «قضية رقم 23»، وكأنها مفروضة من الرقابة، التي وافقت على إجازة الفيلم الجريء، الذي يُنتظر أن يثير جدلاً في كل مكان يُعرض فيه، ويفجر كثيراً من التناقضات، بين من يراه ضد القضية الفلسطينية، ومن ينظر إليه بوصفه إعادة تقدير للموقف اللبناني، وإنصافاً لفئة ظُلمت طويلاً، وفضحاً لمنظمات تتاجر، وتؤجج الكراهية، وتُشعل الفتنة التي لعن الله من أيقظها!أدرك المخرج زياد دويري، سليل العائلة اليسارية التي كانت تسكن بيروت الغربية، وتحمل العلم الفلسطيني من الصباح إلى المساء، حسب قوله، أن مرور أكثر من 25 عاماً على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990) لا يعني مُطلقاً أن الملفات الساخنة أغلقت، والجراح القديمة التأمت، والنار المتأججة خمدت، ومن ثم راح يفتش عن الضحايا بين الجانبين اللبناني والفلسطيني، وعبر حكاية مشوقة وعذبة لا تخلو من حس سياسي ناضج، تبنى وجهة نظر مزجت بين الجرأة والصراحة.كأي خلاف عابر بين جارين، كان ينبغي أن ينتهي النقاش العاصف بين «طوني» (عادل كرم) و»ياسر» (كامل الباشا)، خصوصاً أن سبب الخلاف تافه للغاية (قطرات ماء متسخ تتسرب من مزراب شرفة «طوني» لتسقط على رأس «ياسر» أثناء عمله في الشارع). لكن لأن ما حدث يجري على أرض لبنان، التي اكتوت بالحرب الأهلية طويلاً، وتعاني حالة احتقان مزمنة مُحملة بالتربص، والضغينة، والكراهية، التي تنتظر اللحظة التي تطل فيها برأسها، لأي سبب، حتى لو كان ساذجاً، لتصفي الحسابات القديمة، اتخذت المعركة بعداً طائفياً بالدرجة الأولى. فالشاب المسيحي «طوني» صاحب ورشة إصلاح السيارات، الذي يقيم في منطقة فسوح ذات الغالبية المسيحية في بيروت، ويأمل بأن تلد زوجته «شيرين» (ريتا حايك) طفله الأول، يدخل في جدل عبثي والمهندس «ياسر»، المكلف بإصلاح المرافق في المنطقة، يصل إلى حد تراشق الألفاظ، التي تنتهي بلفظة قاسية من «ياسر». لكنّ «طوني» يصعِّد الموقف، لرغبته في الانتقام من اللاجئ الفلسطيني المسلم المُقيم في أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان!
نتيجة «الإهانة» (عنوان الفيلم بالإنكليزية) لجأ «طوني» إلى مقاضاة «ياسر» في المحكمة، التي سجلت الدعوى في الأوراق على ذمة «قضية رقم 23» (عنوان الفيلم باللغة العربية)، وفي واحد من أكثر السيناريوهات تماسكاً، وتشويقاً، وإثارة، ينجز «دويري» و{جويل توما» نصاً سينمائياً يتحول فيه النزاع التافه إلى مواجهة عاصفة، في ساحة القضاء، لا يغيب عنها الإعلام الفاجر، الذي يتاجر بالقضية، وأطرافها، وبعدما يصبح الرأي العام طرفاً في الجدل، تصبح الفرصة مهيأة لفتح ملفات الحرب الأهلية، والنبش في الملفات الشخصية إذا لزم الأمر!في مشاهد من الفيلم يبدو «دويري» منحازاً إلى المهندس الفلسطيني، الذي يأبى توظيف الإهانة الحقيقية التي وجهها إليه «طوني»، بقوله: «يا ريت شارون كان محاكم عن بكرة أبيكم»، في كسب النزال من الجولة الأولى، ورفضه أية متاجرة بقضيته من الإعلام أو المحامية «نادين» (ديامان أبو عبّود). لكن سرعان ما تتعادل الكفة بالنظر إلى المأساة التي يحملها «طوني» على كتفيه، فالشاب، الذي نوه السيناريو بذكاء إلى انتمائه إلى حزب «الكتائب»، وإيمانه بأفكار بشير الجميل القائد العسكري للقوات اللبنانية، وإدمانه الاستماع إلى خطبه المتلفزة، هو ابن بلدة «الدامور» المسيحية، التي تمكّن مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية، من اجتياحها، خلال الحرب الأهلية، بسبب سيطرة مسلحي الكتائب عليها، وقتل المئات من سكانها، وهو ما تسبب في ثورة الانفعال الشديد، التي انتابت «طوني» كما قال محاميه «وجدي وهبة» (كميل سلامة) في دفاعه! من دون شعارات زاعقة أو خطب رنانة أكد الفيلم، على لسان شخصياته الرئيسة، أن «الحرب الأهلية انتهت عام 1990 لكنها ما زالت باقية في العقول»، وأن «الاعتذار ليس نقطة ضعف بل مسحة أخلاق»، كما أن «لا أحد يحق له احتكار المعاناة»، في إشارة إلى الفلسطينيين، الذين لا ينبغي لهم النظر إلى أنفسهم بوصفهم أنهم الوحيدون «المشردون في الأرض»، وأن «تسليط الأضواء على قضيتهم وحدهم فيه ظلم لأطراف أخرى». لكنه شدّد في المقابل على أن «الإهانة» ليست مجرد كلمات عابرة، وإنما استهداف لهوية شعب، وتاريخ قضية.وفي أعقاب مواجهة ساخنة بين «طوني» و{ياسر» انتهت باعتذار الأخير، وأيقونات لها دلالاتها، مثل: هطول المطر، وكأنه ينظف الأدران، والعلم اللبناني وهو يرفرف، وعودة «طوني» إلى بلدته الدامور بعد غيبة متعمدة، يتبادل الطرفان اللدودان نظرة تفاهم، وصفح، وغفران، ويبدو الكل سعيداً في مصالحة وطنية عبثية، وكأنها النهاية السعيدة في أفلام الأبيض والأسود!