إلا انتهاك كرامة الإنسان
شاهدت منذ فترة برنامجا وثائقيا عن أحد المعتقلات في الصحراء الغربية، أكثر ما استوقفني في هذا العمل كان تلك اللحظات من الغضب التي انتابت أحد المعتقلين السابقين في لحظة معينة، عندما كان يروي العذابات التي عاناها في المعتقل، حيث عاش عاما ونصف العام في عزلة كاملة، لم يتكلم فيها مع بشر، ولم يكن يدخل عليه سوى السجان، يخرج في اليوم لأقل من دقيقتين ليفرغ الدلو الذي يقضي فيه حاجته، ومرة كل شهر ليغسل ملابسه، أخذ يصف صنوف العذاب التي تعرض لها، كان يحكي بمزيج من الهدوء والألم، وعندما وصل إلى النقطة التي يصف فيها كيف كانوا يعطونه نصف شفرة مرة كل شهر ليحلق بها رأسه بيده، فيجرح نفسه هنا ينفجر المعتقل السابق غاضبا: "لماذا لا يأتي واحد آخر ليحلق لي رأسي، بدلاً من أن أجرح نفسي وأنا أحلق؟" ولا يتمالك نفسه، يستجمع لحظات القهر جميعها لتتلخص في ذلك الموقف الصغير. كنت حريصا دائما على ألا أشاهد نوعية من الأفلام، التي تدين فترة حكم جمال عبدالناصر، خصوصا تلك الأفلام التي تدعي أنها تكشف ما كان يمارس في المعتقلات والسجون المصرية مثل "الكرنك" و"إحنا بتوع الأتوبيس"، وغيرهما من الأفلام، كان السبب في تجنبي رؤية تلك الأفلام عائداً إلى رغبتي في عدم مواجهة إدانة عصر بكامله، بسبب تجاوزات حدثت فيه، وأيضا كان اقتناعي بأن هذه الأفلام تضخم الأمور وتصور الوقائع بأكبر من حجمها، لكن يبدو أن للعمر فعله مع الإنسان، فما كان يعتقده مبررا في مرحلة عمرية معينة، يكتشف فيما بعد أن أي تبرير لا يمكن أن يقف متماسكا أمام تجاوزات في حق الإنسان بأن يعيش كريما، ولا يوجد هدف، مهما سما، يبرر امتهان إنسان ودهس كرامته وإنسانيته.
كما قلت، يبدو أنه العمر الذي يجعلنا نكتشف قدسية الحفاظ على إنسانية الإنسان، كلنا مررنا بمرحلة الحماس للفكرة أو العقيدة - سياسية كانت أو دينية- وغرقنا في تفاصيل ما اعتقدنا فيه، وآمنا به حتى الدرجة التي أعمتنا أحياناً عن أي سلبيات لما نؤمن به، ورأينا، أو رأيت وقتها، أن من اختار ممارسة لعبة السياسة، عليه أن يقبل قوانينها حتى لو حملت في طياتها تجاوزا لأي قيم إنسانية، أو إهداراً لحقوق إنسان آخر، طالما أنه قبل أن يلعب اللعبة، وبالتالي إذا فاز فله السيطرة، وإذا خسر فعليه تبعات الخاسر وتحمل الثمن. إنه منطق المنتصر الذي له حق فرض شروطه على الخاسر، هذا المنطق كان له حضور في أذهاننا وقت الاندفاع والحماس غير المحسوب، ولكن النظرة المختلفة للأمور بعد تجارب الحياة المختلفة، وبعد نضج العقل والشعور تكشف خطأ ما اندفعنا فيه من تبرير لمواقف نظم وحكام ضد معارضيهم، عندما انتهكوا حقوقهم وإنسانيتهم، ببساطة، لا يوجد سبب واحد على وجه الأرض يبرر انتهاك إنسانية إنسان، ولا يوجد مبدأ سياسي أو عقدي جدير بالاستمرار والاعتقاد فيه إن سمح بمثل هذا الانتهاك، ولا يوجد نظام سياسي جدير بالاستمرار، إن وجد في انتهاك حقوق ناسه أسلوباً أو وسيلة للاستمرار. أذكر وجه المعتقل المغربي الغاضب، لأنهم لم يأتوا له بمن يحلق له رأسه، بعد كل هذا العذاب الذي عايشه، أذكر تلك المشاهد وغيرها، ويزداد يقيني ألا حق لإنسان، أياً كان، أن ينتهك إنسانية إنسان آخر.