رغم أن الجيل الستيني كان جيلَ كتابةٍ وكِتاب، فإن هناك فنانين لا شأن لهم بالكتابة والكتاب، انتسبوا إليه عن دراية، مثل الفوتوغرافي جاسم الزبيدي، ورسام الكاريكاتير بسام فرج، وعن غير دراية، مثل المطرب حسين نعمة. ورغم أني أرغب في استعادة الجميع، لكن بعض الوقت اليوم، طمّعني باستعدة حسين نعمة وحده. هذا الوقت أولمني فيه "يوتيوب" على ثلاث أغانٍ، منها اثنتان قديمتان، أحفظهما عن ظهر قلب: "يا حريمة" و"ردّيت"، والثالثة متأخرة، غناها على كبر، لم أسمعها من قبل: "بيّن عليّ الكُبُر". والأغاني الثلاث توحي لك بأنها ليست ضرباً من "التعبير الفني"، بل هي ضربٌ من "التعبير الشخصي". هذا البعد في التعبير ينفرد به حسين نعمة، وخاصة بعد أن عزّزه بأغنية "يا حريمة". ينفرد به دون مطربي الأغنية العراقية، إذا ما استثنيتُ زهور حسين. وكم كان هذا "التعبير الشخصي" ذا جاذبية بالنسبة لي، أنا الذي كنت أعتقد، وما زلت، أن "الأغنية" هي الحبل السري الذي يربط العراقي كفرد بعراقه. ويصح هذا على كل مواطن في العالم.أغنية "يا حريمة" تعبير عن معاناة شخصية، هذا ما توحي به في الكلمات والأداء، وكذلك "ردّيت". ولا غرابة أن أجد أغنية "بيّن عليَّ الكُبُر" أكثر مباشرة في هذا التعبير من كلتيهما. إنها حاجة مُلحّة، لا يُسهم فيها النص الشعري، ولا اللحن الذي وُضع لحسين نعمة شخصياً، ولا الأداء فقط، بل تسهم فيها الحنجرة ذاتها، لأني أشعر صادقاً بأن حنجرتَه تؤدي تنهدات، أو ما يشبه التنهدات، مُستمدةً من رئتين يلذع شرايينها الأسى كلذع دخان السجائر، ويستمدان هذان بدورهما رقةَ هذا الأسى من القلب المُحتضَن من قبلهما.
إن رخامة الصوت لم تتولد من أوتار الحنجرة وحدها، إذن لكانت "تعبيراً فنياً" لا "شخصياً"، بل هي وليدة حنجرة تأخذ عن رئتين، تأخذان عن قلب بالغ الأسى.حين يحلو لي أن أستمع إلى حسين نعمة، فعن حاجة شخصية، لذلك أُفضل أن أسمعه منفرداً. مع الأغنية العراقية والعربية عادة ما يحلو لي أن أستمع لها مع الجماعة. ولعل هذا الميل ينتاب كثيرين، لذلك لا أشعر بأنها حاجة للطرب الجماعي، بل للتعبير عما هو شخصي، ينفرد به الفرد وكأنه قد خُص به. إن العيون قد تبتل أحياناً بفعل الافتتان بـ"التعبير الفني" الجمالي للغناء، وهو الأمر الأكثر شيوعاً مع الموسيقى الشعبية. لكنها ستبتل بالتأكيد بفعل الاستجابة عن طواعية لـ"التعبير الشخصي". ثمة نبش هنا لتربة الروح المغتربة، المخضبة بمشاعر الفقدان. في الجيل الذي سبقني كان ثمة مَن ينتصر لفريد الأطرش للدافع ذاته، ويفضل أن يسميه "وحيد"، رغم ميوعته العاطفية. يجد فيه هذا "التعبير الشخصي"، مقابل "التعبير الفني" الذي تتألق فيه حنجرة وأداء محمد عبدالوهاب.حسين نعمة في هذا يُقرن بزهور حسين، التي سبقته. مَن يصغي لبعض أغانيها يُحس بأنها تُغني لنفسها، أو تغني له شخصياً. إن بحة صوتها ليست نتاج زخرف فني في أوتار الحنجرة، بل نتاج ندب سابق أو صرخة شاكية يألفها العراقي عن أخت أو أمّ. ويبدو أن الكثير من قصائد وألحان أغانيها إنما وُضعت لها خصيصاً. وهو ما أحسسته مع أغنية "يا حريمة"، و"بيَّن عليَّ الكُبر".في الأغنية الشعبية يبدو لي هذا "التعبير الشخصي" استثناءً. وحسين نعمة ينفرد عن مغني جيله الستيني بهذه الفضيلة، لذلك يبدو متمنّعاً، بحكم الطبيعة، عن أن يندرج ضمن تيار "الأغنية الجماهيرية" (وهو مُصطلح يُطلق في الغرب على الأغنية التي تُعد للجمهور الضخم الراقص من قبل وكالات مختصة، والشائعة عالمياً وعربياً اليوم)، وعن أن يأخذ حصته من الجاه والثروة.
توابل - ثقافات
حسين نعمة وأغنية «التعبير الشخصي»
15-10-2017