إلغاء البصمة الوراثية... هل من درس؟
جاء حكم المحكمة الدستورية بإلغاء قانون البصمة الوراثية كرصاصة رحمة على قانون مات سريرياً منذ زمن طويل. فبالإضافة إلى المعارضة المحلية والتحرك الدولي ضد قانون لا مثيل له في العالم في التعدي قسراً على خصوصية الناس، كان موقف صاحب السمو أمير البلاد واضحاً وحاسماً للجدل بتوجيهه أمراً غير مسبوق بتعديل القانون بما يحفظ خصوصية الناس. كما قدم رئيس مجلس ٢٠١٣ قبل حله بيوم واحد اعتذاراً واضحاً للشعب الكويتي عن صدور القانون. فما بال أقوام ما زالت تصر على أن ذلك القانون الميت كان سيحقق أمناً ما للبلاد؟ فإن كانت كل هذه الجهات وآخرها المحكمة الدستورية تقول بضرر القانون ومخالفته للدستور، فمن أين جيء بوهم أن ذلك القانون يحقق أمن البلاد؟حتى اللحظة لم تقدم الحكومة اعتذاراً، أو إيضاحاً لإشغالها الناس بقانون ساقط دستورياً وأخلاقياً، ويمثل انتهاكاً صارخاً لخصوصية الناس حسب المحكمة الدستورية. لم تكلف الحكومة نفسها عناء تبيان الخطيئة التي ارتكبتها، ببيعها الوهم مستغلة حادثة جريمة مسجد الإمام الصادق، وتمريرها القانون خلال ٤٨ ساعة فقط.الإخلال بأصول العملية التشريعية، والاستهتار بحقوق الناس، ليسا أمرين جديدين، فقد أصدر مجلس ١٩٦٣ أربعة قوانين ضد الحريات مخالفة للدستور، وترتب على ذلك استقالة ٨ نواب احتجاجاً. بل حتى المجلس الموصوف بمجلس الأغلبية (فبراير ٢٠١٢) ارتكب فيه وضع مشابه مع اختلاف التفاصيل، حين صدر قانون إعدام المسيء الذي تواطأت الحكومة والمجلس على إصداره، بصورة مستعجلة، فكان أن رده صاحب السمو لمثالب دستورية واضحة.
ذلك النوع من القوانين المعيبة وغير الدستورية لا ينتج عنه إلا مزيد من التبرير للقمع والهيمنة والتسلط، عن طريق القانون، كما أشارت بوضوح المحكمة الدستورية في حكمها الأخير، "فالقانون شيء والعدالة شيء آخر". والقانون الذي لا يحقق العدالة في المجتمع هو قانون ضرره أكثر من نفعه، حتى لو تم تدبيجه بأكثر العبارات بلاغة.الآن من المسؤول عن هذا العبث؟ من المسؤول عن إشغال المجتمع بقانون ساقط، غير دستوري، وغير أخلاقي، تم تمريره "في ليلة ما فيها ضو قمر"؟ ومن المسؤول عن إصرار حكومي على حملة تضليل وتشويه، جعلت البعض يظن أنه يحقق أمناً ويكشف تزويراً، وهو لا يحقق هذا ولا يفعل ذاك؟ لو كانت هذه هي المرة الأولى لقلنا إنها خطأ يغتفر، وعليهم ألا يعودوا لتكرارها مرة أخرى، لكنها تكررت عدة مرات. فإن كان هذا حال المجلس الموالي والمجلس المعارض سواء بسواء، وإن كان ذلك هو حال الحكومة فمن يضمن حماية البشر من تعسف السياسيين؟الحد الأدنى المطلوب من السلطتين، ليس التنمية، وليس النهوض بالبلاد، فذلك كلام "مأخوذ خيره"، ولكن الحد الأدنى المطلوب هو التوقف عن إصدار قوانين مخالفة للدستور، وكف الأذى عن الناس، والتدخل في خصوصياتهم، وتقييد حرياتهم، بحجج الحفاظ على الأمن، وهو ما رفضته المحكمة الدستورية بوضوح لا لبس فيه. وأمثلة تلك القوانين كثيرة، منها قانون الجنسية وتعديلاته، وقانون الانتخاب وتعديلاته، والقوانين التمييزية ضد المرأة، والتشريعات الخاصة بالبدون، وتخفيض سن الحدث إلى ١٦ عاماً، والبصمة الوراثية، وقوانين تقييد حرية التعبير، وإعدام المسيء، وحرمان المسيء، وزيادة الحبس الاحتياطي، وبعضها تم تعديله والبعض الآخر مازال قائماً. إلغاء القانون بصورة نهائية عبر المحكمة الدستورية هو تطور إيجابي يحسب لمصلحة النظام السياسي الكويتي، ويعزز المؤسسية، إلا أن الأهم من ذلك هو عدم تكرار العبث التشريعي والإضرار بحقوق الناس لمكاسب سياسية قصيرة المدى، يظنها البعض ماء وهي ليست إلا سراباً بقيعة.