الشهرة في كثير من الأحيان لا تعني حقيقتها، بل أغلب ما يطفو على سطح الشهرة ليس سوى ترويج للغث والتافه في زمن منحدر باندفاع سريع نحو تآكل قيمه وأخلاقه، وهذه "الغثاثة" والرثاثة انتشرت وطفت على الأدب والفن والموسيقى وكل منتجها، في زمن ترويج الرداءة هذا، والمجال لا يتسع لطرح نماذج كثيرة تفضحه، لكني سأكتب عن نموذج لشهرة كاتب وكتاب، مثال على ذلك.الكاتب شارلز بوكوفسكي، والكتاب روايته "نساء"، وربما سينتقدني الكثيرون، وهذا حقهم فيما يرونه من عظمة الكاتب ذي الصفات المتعددة، فهو الشاعر والروائي والصحافي والممثل والمؤلف وكاتب العمود، وكلها في رأيي لا تحمل قيمة إبداعية عميقة وقوية، فكل ما امتهنه كان فقط لتحصيل نقود تكفي لدفع إيجار بيته، وتغطية ثمن زجاجات الخمر التي يشربها ليل نهار بلا توقف، وتكمن ميزتها في قدرتها على تصوير حالة المدمن ومجتمع الحضيض الذي عاشه.
كيف يتحول رجل مدمن كحول ومخدرات لا يفيق من سكره ومن بذاءته ليصبح مثالا وعنوانا للتمرد وقدوة للشباب للعيش بحرية وفوضوية البوهيمية العاطلة الكسولة؟لا أفهم قيمة ما كتبه هذا الرجل لتروج له دور النشر وتترجم أعماله، لتتكسب من فضائحه، فكل ما كتبه يدور حول علاقاته الجنسية بالنساء والخمر، وقد اعترف بضآلة كتابته، حتى إنه كتب رواية أسماها "أدب رخيص" يسخر فيها من الكتابة، ربما كان لشعره روح تمردية ضد الفقر والحرب والقوانين، لكنه لم يعمل أي شيء يحمل كلامه على محمل الجد والعمل الحقيقي لما يكتب عنه في تعتعة سكره. مَن لديه قضية وهم حقيقي يشتغل عليها بجد، لكن هذا الكاتب لم يقدم أي مصداقية لما كتب عنه.رواية "نساء" تقع في 535 صفحة تتكلم في معظمها عن شربه للخمر من بداية صحوه إلى نهاية يومه، ومضاجعته للنساء في كل الأوقات، ولا شيء آخر، ولو اكتفى بذكر حياة يوم واحد من أيامه لانتهت الرواية فيه، لأن كل ما سيُذكر في كل الصفحات هو تكرار لما يحدث في كل يوم، الفرق الوحيد يأتي من تغير رفيقة يومه إلى امرأة أخرى.الرواية تطفح بألفاظ البذاءة والتصرفات السوقية المنحطة، سواء من شخصية البطل، وهو ذاته كاتب الرواية، أو من طرف نسائه، وأغلبهن فتيات عشرينيات، والأقلية بعمر الثلاثين. ورغم بشاعته، فإن علاقاته النسائية بلا حدود، وهذا مقتطف لوصفه لشكله: "كلها كانت هناك، الندوب، أنف السكير، الفم الأشبه بفم القرد، العينان الضيقتان كشقين طويلين، وفوق ذلك ابتسامة الحبور تلك العريضة البلهاء لرجل سعيد، سخيف محظوظ"، "كنت منجذبا إلى كل الأمور الخطأ: أحب السكر، وكنت كسولا، لم يكن لي رب، ولا رأي سياسيا، ولا أفكار، ولا مثاليات، كنت مستقرا في العدم، في نوع اللاوجود".ومع كثرة علاقاته بالنساء، إلا أنها كانت علاقات سطحية جسدية خالية من الدفء والصدق والعاطفة، علاقة غريبة ملتبسة، وهذا مقتطف يبينها: "حين تبغضك امرأة، انسها. في استطاعتهن عشقك، وفجأة يتحول شيء ما في داخلهن. في مقدورهن أن يشاهدنك تموت في بالوعة أو تنهرس تحت دواليب سيارة، وسوف يبصقن عليك".نظرته إلى الحب تحمل البغض له: "كنت سعيدا، لكوني غير واقع في الغرام، وبأني غير راضٍ عن العالم. أهوى أن أكون على خلاف مع كل شيء. الناس المغرمون يصبحون غالبا انفعاليين وخطرين، يفقدون حس البصيرة وحس الدعابة والمزاح. يصيرون عصبيين، ذهانين مضجرين، يمسون حتى قتلة".وهذا مقتطف آخر: "كنت كاتبا. كنت عجوزا حقيرا، ثم انها العلاقات الإنسانية مخيبة بكل الأحوال. ثمة البهجة في الأسبوعين الأولين، ثم يفقد الطرفان الاهتمام. تسقط الأقنعة، وينكشف الأشخاص على حقيقتهم: مهووسون، أغبياء، مخبولون، حاقدون، ساديون، مجرمون، المجتمع المعاصر استولد كائناته الخاصة، كائنات يلتهم أحدها الآخر، كان صراعا حتى الموت، داخل بالوعة".يبرر مسألة إدمانه في قوله: "إن حدث أمر سيئ تشرب في محاولة للنسيان، وإن حدث أمر طيب تشرب للاحتفاء به، وإن لم يحدث أي شيء تشرب من أجل أن يحدث شيء ما".لا أدري إن كان بالفعل هذا الشاعر اختصر الطريق إلى معنى ومفهوم الجنة بالتعايش مع حور العين وانهار من الخمر والعسل التي يوعد بها الرجال، ويتطاحن عليها الإرهابيون في تقديم قرابين الانتحار.
توابل - ثقافات
شهرة ما لا قيمة له
16-10-2017