مدن الكويت روائياً
في زيارة للناقد العربي جابر عصفور للعراق، طلب أن يزور جيكور بلدة الشاعر العربي الكبير بدر شاكر السياب، ويرى نهر "بويب"، الذي صنع منه السياب نهرا أسطوريا، ولم ير عصفور سوى ممر مائي صغير كان يظنه نهرا عظيما خالدا كالنيل أو المسيسيبي. صنع شعر السياب، وقصيدة "النهر والموت" تحديدا، من هذا الممر المائي، وقد جاءت تسميته فيما أعتقد تصغيرا لكلمة "بايب" بالإنجليزي، نهرا عظيما محملا بالحنين، وليس مجرى مائيا لسقاية النخيل. والوضع في الرواية لا يختلف عنه في الشعر، فأغلب الأماكن في النص الأدبي ليست نسخة حقيقية عن المكان المعني. المكان هو تفاعل الروائي أو الشاعر، وليس نقله كما يحدث في اللوحات الطبيعية للفن التشكيلي.أقام الزملاء في الكويت قبل أيام ندوة حول المكان في الرواية في الكويت وغيابها عن النص الأدبي. ورغم متابعتي للمادة الصحافية التي كتبت عن الندوة فإنني أرى أنها لم تقدم أسبابا منطقية لهذا الغياب، ولم تقرأ في أسباب الحضور الخجول للمكان في النص الأدبي الكويتي. أعتقد أن هناك سببين لهذا الغياب: الأول هو غياب المكان، والثاني هو غياب الروائي.
الكويت/المدينة، وذلك ينطبق على بقية المدن الكويتية التي تأسست فيما بعد، كانت مدينة متحولة بسرعة دراماتيكية منذ خمسينيات القرن، وهي الفترة التي شهدت تعليما نظاميا. كانت مدينة متطورة بشكل كبير تتغير ملامحها بسرعة خارقة، ويخرج سكانها من محيطها الصغير إلى ضواحيها التي تمددت عمرانيا. لم تكن مدينة عريقة بآثارها وقلاعها ومتاحفها، كما هو الحال مثلا في القاهرة وباريس. وفي تلك الفترة لم يخرج لنا التعليم الجديد روائيا، واستمر الحال حتى ثمانينيات القرن الماضي دون أن يولد هذا الروائي المشروع الذي باستطاعته أن يعيش ذلك التطور ويرصده إبداعيا. ومحاولة مجموعة من القصاصين رصد أحداث ماضوية لم تكن نتيجة معايشة مباشرة قدر كونها حنينا لهذا الماضي الذي تم نقله شفاهة أو كتابة تاريخية كما هو الحال في بعض قصص سليمان الخليفي.الحال في المدينة القديمة التي هجرها سكانها وأصبحت منطقة تجارية ومساكن للجاليات الأخرى لم يكن ليختلف كثيرا عن الأماكن الجديدة التي تغيرت هي الأخرى بذات السرعة تحت وطأة العمران الحديث. وحتى الثمانينيات لم يكن لدينا من يرصد هذا التغير الكبير سوى ليلى العثمان في قصصها ورواياتها التي تلت تلك الفترة. لم يولد لدينا روائي صاحب مشروع في القرى الشمالية أو الجنوبية من البلاد ربما للأسباب ذاتها المتعلقة بالتعليم.الطفرة الأدبية حصلت في العشرين سنة الماضية، وأصبح لدينا جيل روائي بإمكانه أن يشكل مشاريع روائية، ولابد أن تكون المدينة مكانا مهما في مشاريعهم الروائية، لكنها بالتأكيد ستكون المدينة الجديدة وذكريات المدينة القديمة. الأكثر أهمية هنا هو أن يلعب المكان دورا بطوليا لا مجرد مكان للأحداث الروائية. ليس مهما أن نسرد عدد المناطق والضواحي التي يمر بها البطل، أو يعيش فيها كي نقول إننا رصدنا المكان روائيا. الأهم هو دور المكان في تأسيس شخصية الرواية وتطور حالته الاجتماعية والنفسية.