اتساع الفارق الزمني بين أي تجربتين مسرحيتين لفنان يضعه أمام طريقين لا ثالث لهما، إما أن يعود محملا بخبرة أكبر فيترك بصمة تؤكد نضج تجربته الفنية بشكل عام، أو أن يفقد كثيرا من لياقته ويقدم عملا مترهلا، وبناء عليه أستطيع القول إن الكاتب والمخرج فيصل الفيلكاوي عاد لنا مجددا بتجربة ناضجة مكتملة الأركان تحت لواء فرقة المسرح الشعبي ليقدم عرضه "ثنائي القطب" على هامش المسابقة الرسمية لمهرجان الكويت لمسرح الشباب العربي، على مسرح كيفان وسط حضور جماهيري كبير زحف ثقة بما تقدمه فرقة المسرح الشعبي من إنتاجات.الفيلكاوي ككاتب يجنح دائما للتفكير خارج الصندوق، لذا كان من المنطقي أن يقدم لنا عملا يلعب به على ثنائيات الميلاد والموت، المرض والحياة، حيث يولد الشيء من نقيضه داخل دائرة درامية، وتتكشف لنا بطبيعة الحال قوالب هذه الشخصيات وما تحمله من متناقضات مأساوية، حيث تساهم في صنع الحياة وإن ماتت، وتغتال الحياة وهي على درب الموت، إنها معاناة الإنسان المعاصر بين ويلات الحروب والأزمات التي تعصف باستقراره النفسي وتعصف البعض ليعيش مشردا ينشد الراحة ولا يجدها وقد يسوقه القدر لدفن أعز من يملك.
تلك الفكرة الفلسفية التي اشتغل عليها الفيلكاوي ككاتب ما كانت لتخرج للنور بهذا المستوى لولا وجود إحدى أهم أدوات المخرج وهي التمثيل بمشاركة الثنائي على ششتري وموسى بارون بما يمتلكانه من أدوات، ومعايشة كل منهما الشخصية التي يجسدها، والانسجام والتناغم بينهما، حيث خاضا مباراة في الأداء، ولا شك أن عرض العمل خارج المسابقة الرسمية حللهما من أي ضغوطات فألقى الجميع بما في جعبته.أما على مستوى السينوغرافيا فقد أبدع د. عنبر وليد في صناعة فرجة، حيث نسج من الإضاءة وقطع الديكور البسيطة والأزياء لوحة جمالية، وهنا تتجلى أهمية أن يقتنع المخرج بأهمية التخصص والتكامل في صناعة أي عرض مسرحي وألا يسيطر الفكر الواحد على العمل.ويبدأ العرض بدخول شخص يدفع عربة خشبية متهالكة نكتشف بعد ذلك أنها قارب في عرض البحر، ويغنى يا معيريس عين الله ترعاك، في لهجة حزينة تتنافى مع طبيعة العرس والفرح، ويواجه المركب المتهالك عواصف ورياحاً تحمل الموت في طياتها، فقد هرب من فيه من أوطانهم بفعل الحروب والدمار وفقدان بيوتهم فاضطروا لركوب الخطر واللجوء إلى دول أخرى، لكن كان الموت والدمار أيضا في انتظارهم، إنها معاناة الإنسان المعاصر الذي يبحث عن الأمان فلا يجده.ونعرف أن الأم ماتت خلال الرحلة كما ماتت أمل الطفلة التي ترمز إلى المستقبل لتقديم نظرة سوداوية بعيدة عن الأمل في الخلاص القريب من هذه المعاناة التي أصابتنا بالعجز والأمراض وأدخلتنا في الهلاوس والعبث، فنرى نوعا من الهذيان على لسان بطلي العمل، واجترار الذكريات وطرح التساؤلات وتوجيه الاتهامات: "أنت عنصري داعشي"، والدخول في دوامة من الحوارات العبثية ليكون المشهد الأخير الأخ الأكبر يكفن أخيه، وهو يطلب منه أن يتكلم دون جدوى، فقد رحل إلى عالم الأموات.يذكر أن مسرحية "ثنائي القطب" من تأليف وإخراج فيصل الفيلكاوي، وسينوغرافيا وإشراف عام د. عنبر وليد، وتمثيل على ششتري وموسى بارون، وإضاءة نصار النصار، ومساعد مخرج غدير حسن.
توابل - مسك و عنبر
«ثنائي القطب»... فلسفية الطرح واحترافية الأداء
24-10-2017