الكويت بين إيران وتركيا (4-4)
تثير دراسة د. عبد الرضا أسيري للسياسة الخارجية الكويتية، وعلاقة الكويت بكل من إيران وتركيا، مسائل عديدة في السياسات الإقليمية والدولية.وسأحاول في هذا المقال ومقالين قادمين الحديث عن العلاقات العربية- التركية، وما أثير بشأنها من تصورات، ونحن نعرف الكثير عن عملية اتخاذ قرارات السياسة الخارجية في البلدان الغربية والدول المتقدمة عموما، ولكن من يتخذها في دول الشرق الأوسط، كالدول العربية وإيران وتركيا؟ وما عمق ونضج هذه القرارات؟ لا مجال بالطبع في هذه المساحة المحدودة لتحليل خلفية هذه العملية في عشرات الدول، وسنكتفي بالإشارة إلى العلاقات العربية- التركية، استطرادا لحديثنا عن علاقات الكويت مع تركيا، وسنشير بشكل خاص إلى ندوة الحوار العربي- التركي، التي عقدت في إسطنبول في نوفمبر 2009، وكان ضمن مواضيعها مستقبل العلاقات العربية التركية وآفاقها.
في هذه الندوة سأل الإعلامي التونسي المعروف "غسان بن جدو" وكيل وزارة الخارجية التركي السفير "أنغين صويصال" بعد انتهاء محاضرته: "لقد قلتم إن وزارة الخارجية لتركيا... هذه النقطة ربما تشكل نقطة مشتركة بين تركيا والحكومات العربية، ببساطة لأنه في معظم بلداننا العربية هناك شخص واحد يحدد السياسة والقرار الخارجي لبلده، هو الرئيس أو الملك، أي الحاكم، لذلك سؤالي: من يحدد السياسة الخارجية في تركيا تحديدا؟". (الحوار العربي - التركي، ومركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010، ص47).ولا يمكن بالطبع اعتبار الأستاذ غسان بن جدو "فولتير" الإعلام العربي إلا بشق الأنفس، ولكن سؤاله يظل قائما ووجيها، وقد يفسر الكثير من الخلافات الخارجية بين البلدان العربية، والتي قد تمتد إلى سنين أو تحل خلال أيام أو أسابيع، دون معرفة سبب الخلاف أحيانا وأسس الحل. ذهبت الباحثة التركية المشاركة في الندوة د. مليحة إيشيك إلى أن اهتمام تركيا بمحيطها الشرقي بدأ بسبب هزتين: انهيار الاتحاد السوفياتي وأزمة الخليج وحرب العراق عام 1991 وقالت: "زادت أزمة الخليج، أي حرب العراق، من اهتمام تركبا بالشرق الأوسط، وجعلت هذا الاهتمام أمرا لا مفر منه، لكن نقاشا بين اللاعبين في تركيا قد بدأ أيضا. إن الجميع يدرك أهمية الشرق الأوسط ولا سيما أهمية العراق، وبدأت تظهر في الداخل التركي نقاشات تركزت حول كيفية تطوير تركيا لرؤية جديدة، وإلى أي درجة يجب أن نهتم بالشرق الأوسط". (الحوار العربي - التركي بين الماضي والحاضر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010، ص55). إن تركيا ليست جارة للكويت مثل إيران عبر الخليج، ولا هي بالقرب الجغرافي نفسه من الكويت، ولكنها بالنسبة إلينا دولة بالغة الأهمية في ذاتها وقوتها واستقرارها وفي تحالفاتها الدولية. ولتركيا مخاوف مثلنا في البلدان الخليجية والعربية من الطموحات والبرامج النووية الإيرانية، غير أننا من جانب آخر لا ندرك الآن مثلا تأثير المشكلة الكردية على تحالفات وتوازنات المنطقة، وما سيحدث للعراق وإيران وتركيا وسورية بسبب تداعياتها. ومن جانب آخر هناك تطورات تركيا الداخلية وبخاصة تحولات نظامها السياسي وتراجع مساحة الديمقراطية والعلمانية فيها، وكذلك اتساع مدى تدخلها في مشاكل العالم العربي ومناصرتها للإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين.ومن المرجح أن تعطي تركيا الأولوية لعلاقتها مع إيران، لأن أكثر ما يخيف تركيا منذ فترة المشكلة الكردية، بسبب تأثيرها السياسي البالغ الأهمية على تركيا ووحدة أراضيها. يقول الكاتب "عثمان ميرغني" في مقال بالشرق الأوسط بعنوان "حدود التقارب التركي- الإيراني"، إنه "لم يكن مفاجئا أن تنسق تركيا وإيران لإحباط استفتاء الاستقلال في كردستان العراق، بعد أن أعلن الرئيس التركي أن عملية عسكرية مشتركة مع إيران مطروحة على الدوام". وأضاف "ميرغني "أن أنقرة تميل للتعاون مع إيران لأنها ترى في ذلك "فرصة لشن عمليات ضد الأكراد عبر الحدود في العراق وكذلك في سورية وتنسيقاً يساعدها في شن عمليات ضد قواعد "حزب العمال الكردستاني"، وإيران من جانبها تأمل أن يقود هذا التعاون إلى شيء من التفاهم حيال الأزمة السورية ومستقبل نظام الأسد، لا سيما أنهما يقفان على النقيض تماماً في رؤيتهما للأزمة". (24/8/2017).وفي الندوة نفسها المشار إليها في إسنطبول، تقدم أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت د. محمد السيد سليم- توفي عام 2016- بورقة قيمة بعنوان "الخيارات الاستراتيجية للوطن العربي، وموقع تركيا منها"، وفيها تحليلات ومقارنات قيمة عن إيران وتركيا، وكيف يمكن للعالم العربي أن يفهمها.ويقول د. سليم إن انتهاء القطبية الثنائية وتفكيك الاتحاد السوفياتي عام 1991، فتح مجالاً استراتيجياً جديداً لإيران في آسيا الوسطى والقوقاز، ورغم التنافس الإيراني- التركي في تلك المنطقة فإن إيران حرصت على تجنب المواجهة مع تركيا، وعلى ألا تحاول نشر مفاهيمها الثورية هناك. وفيما يتعلق كبديل "استراتيجي عربي" يقول، إن إيران شريك للعرب بحكم الصلات التاريخية والجوار الجغرافي والتداخل السكاني، حيث يبلغ طول سواحلها الخليجية 3200كم، ومن هنا فإن العلاقات الإيرانية- العربية وبالذات الخليجية، تكتسب أهمية خاصة. "ومن ناحية ثانية هناك البعد التاريخي العميق لتلك العلاقات منذ انتشار الإسلام في بلاد فارس، والاستعانة بالفرس في شؤون الحكم والإدارة في ظل الدولة العباسية".غير أن العلاقات الحالية متعثرة والسبب أنه "رغم أن الثورة الإسلامية الإيرانية مثلت وعداً بتحسن العلاقات العربية- الإيرانية، فإن ذلك لم يحدث، نتيجة إعلان إيران عزمها على تصدير الثورة إلى جيرانها، كما جاءت الحرب العراقية- الإيرانية عام 1980 لتمثل منعطفاً سلبياً في العلاقات العربية- الإيرانية، وجاء الغزو العراقي للكويت عام 1990 ليمثل نقطة تحول في العلاقات بين العرب والإيرانيين، إذ حدث تقارب إيراني خليجي ضد العدو المشترك، وزاد التقارب بعد انتهاء الحرب، ولكنها اختلفت مع دول مجلس التعاون الخليجي في الوجود العسكري الغربي في الخليج.ويشرح د. سليم وجهة النظر الإيرانية في قضية أمن الخليج فيقول إن إيران ترى "أن الوجود الأجنبي في الخليج هو مصدر التهديد الأساسي لأمن المنطقة، وأن أمن الخليج ينبغي أن يكون أمناً إقليميا خليجياً مشتركاً خالصاً يتم في إطار مفهوم الأمن الجماعي الذي تقوم به كل الدول المشاطئة للخليج (العربي)، كما أن أي ترتيب أمني يسمح بوجود مؤثر لأي قوة غير خليجية لن يحقق أمن الخليج، بل سيربطه بمصالح خارجية. إيران، إذاً، تنادي بـ"خليجية أمن الخليج" وهو ما دعاها إلى المطالبة بالمشاركة في الترتيبات الأمنية لدول مجلس التعاون الخليجي في التسعينيات وفي الوقت الراهن تطالب إيران بتكوين منتدى أمني بين دول الخليج لمناقشة القضايا الأمنية المشتركة دون مشاركة أجنبية". (الحوار العربي- التركي، ص 87).ومن مشاكل الجمهورية الإيرانية التي يذكرها د. محمد السيد سليم في ورقته، مرور إيران بمشكلة اقتصادية متعددة الجوانب لاعتماد اقتصادها على عوائد الصادرات النفطية، كما أن إيران تعاني مشكلة نقص الاستثمارات نتيجة للمقاطعة الاقتصادية الغربية. "ولعل المشكلة الأكبر هي علاقات إيران المتردية بالغرب منذ الثورة الإيرانية، وأزمة الرهائن الأميركيين، والحرب العراقية الإيرانية التي امتدت لتشمل مواجهات مسلحة بين إيران والولايات المتحدة". (ص87).ومن التعقيدات الأخرى بين إيران والغرب الملف النووي والاختلاف حول العراق، والقضية الفلسطينية، كما تؤيد إيران منظمة حماس الفلسطينية وتدعم حزب الله، "مما يضعها على حافة المواجهة مع الحكومات العربية الوثيقة الصلة بالولايات المتحدة". ومن ثم يختتم د. السيد سليم بالقول بإمكانية اعتماد العالم العربي سياسياً على إيران، "لا تبدو بمثابة بديل استراتيجي أساسي للعرب في ما يتعلق بالقضايا الأمنية، إذا كانت الاستراتيجية العربية هي التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي، ولكنها بديل مهم إذا كانت تلك الاستراتيجية تدور حول المقاومة، ولذلك تظل إيران بديلا استراتيجياً في المدى البعيد إلى أن تُحل الأزمة الراهنة، وقد أضيف مؤخراً البعد المذهبي المتثمل بالخلاف السني- الشيعي المتزايد، وشك السنّة في أن إيران تعمل على نشر المذهب الشيعي في الوطن العربي".ماذا عن البديل التركي؟ وإلى أي مدى يوفر هذا الخيار البديل الاستراتيجي للعالم العربي؟ هذا ما سيشرحه لنا د. سليم في مقال قادم!!