ارتبط اسم مسرح "كركلا" عند قطاع عريض من الجمهور بالاستعراضات الراقصة والتشكيلات الجسدية المتناغمة والموسيقا الشرقية والمؤثرات الصوتية.

تلك التوليفة التي اعتمدها مؤسس الفرقة المايسترو عبدالحليم كركلا منذ أطلق مسرحه قبل 50 عاماً ليمضي على درب الإبداع ويصول ويجول بين مختلف البلدان ليشكل مع أعضاء فرقته ظاهرة استثنائية في المشهد الفني، ويكون خير سفير للفن العربي.

Ad

لكن السؤال الذي يثور هنا: هل اختلف شيء في تلك التركيبة بالعرض الأول للفرقة، التي قدمت "إبحار في الزمن" على مدار يومين بمركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي؟ والجواب نعم اختلف الأمر كثيراً، وهذا ما توقعناه خلال المؤتمر الصحافي، الذي أقيم قبل ساعات من العروض وحضره أعمدة مسرح "كركلا" إلى جانب المخرج الشاب إيفان كركلا الذي تحدث عموماً عن طبيعة العرض، الذي قدم للمرة الأولى في بعلبك عام 2016 بمناسبة الاحتفال بمرور 60 عاماً على مهرجان بعلبك وفي الوقت نفسه بمناسبة مرور 50 عاماً على تأسيس فرقة "كركلا"، مؤكداً توظيف التقنيات الحديثة بما يخدم العرض ويتماشى وروح العصر.

رؤية سينمائية

ويبدو أن المخرج الشاب كان أكثر واقعية عندما قدم "إبحار في الزمن" إذ مزج الاستعراضات الراقصة من مختلف الثقافات مع التقنيات الحديثة من مؤثرات بصرية وصوتية موظفاً شاشة العرض الضخمة وتقنية الهيلوغرام التي تميز المسرح الوطني بمركز جابر الثقافي فصنع الفارق عندما اشتغل على الربط بين المشاهد السينمائية والأخرى المجسدة على المسرح مع تناغم ودقة في الأداء وتسلسل منطقي للأحداث فينتقل برشاقة ما بين مشاهد السينما والحدث الحي بين أبطال المسرحية والعكس بإيقاع سريع منتظم حال دون تسرب الملل إلى الحضور، يجبرك إيفان على المتابعة بهدوء واستمتاع ونهم للاستعراضات التي شارك فيها راقصون على درجة كبيرة من المهارة ومن خلفيات ثقافية مختلفة ما زاد من إتقان الرقصات لاسيما أن بعضها من التراث العربي وأخرى من الهند وثالثة من الصين.

وأمام حضور جماهيري كبير انطلقت رحلة "كركلا" على طريق الحرير لتستجر الماضي متمثلاً في ذكريات وعادات وتقاليد الأجداد ليبحروا عبر الزمن من دولة إلى أخرى ويتجلى الإرث الثقافي والفني لكل مجتمع عندما ترسو مراكبهم على كل شاطئه على مدار ساعتين تابعنا تفاصيل الرحلة الثرية ذات الأبعاد الإنسانية والتي تؤكد على أهمية التعايش الإنساني وتواصل الحضارات من خلال سبع لوحات تبدأ بلقاء جوبيتر وتيمور الشاب من ثم الوصول إلى عمان ومنها إلى الهند ثم ترسو مراكبهم على شواطئ الصين ومنها إلى اجتياز صحراء تكلامكان (في آسيا الوسطى) وفي اللوحة السادسة نتابع الرحلة بالخيال إلى البندقية (إيطاليا) وأخيراً العودة إلى تراب الوطن.

وتبدأ أحداث المسرحية من بعلبك، مدينة الشمس التاريخية، يزور هياكلها سياح من جنسيات مختلفة، يظهر شاب من بينهم اسمه تيمور، ينفرد من بين رفاقه إثر مشاهدته رجلاً مسناً تملؤه الغرابة فيلحق به ليجد نفسه أمام عرش جوبيتر إله المعابد.

شغف المغامرة

ويبحث جوبيتر، القدر الآتي من الغيب عن شخص مرصود يبث فيه العزم ليضيء أمامه نور الإنسانية وشغف المغامرة، وقد أدرك أن هذا الشاب مقدر له أن يصنع مجداً جديداً.

ثم ينقل جوبيتر تيمور بالزمن إلى الماضي البعيد ويروي له قصة الميدالية، التي يحملها على صدره، ومغامرة جده تيمور الكبير على طريق الحرير.

وها نحن في الزمن الماضي، نشاهد عرساً فولكلورياً، يدور خلاله جدال بين أهل الضيعة المنقسمين بين موافق ومعارض على إرسال بعثة جديدة نحو أقاصي الأرض، وذلك بعد أن باءت الرحلة الأولى بالفشل؛ وهنا يتقدم تيمور الجد، ليقود هذه المغامرة على طريق الحرير.

وصوب الشرق أبحرت السفينة نحو بلاد عُمان، بحثاً عن ابن ماجد أمير البحار ليكون مرشداً لهم في رحلتهم ويتابعون المسيرة نحو بلاد الهند أرض المحبة والسلام، وصولاً الى أسوار المدينة القديمة شيّان، في بلاد الصين، حيث يتم إلقاء القبض على جميع أعضاء البعثة، لكن سرعانما أمر الإمبراطور بالإفراج عنهم، بعد أن يدرك أن مهمتهم سلمية تحمل عنوان الصداقة بين الشعوب، خصوصاً أنهم من بلاد الحرف من لبنان.

ويقام احتفال كبير ترحيباً بهم، حيث يقدم الإمبراطور ميدالية لتيمور الجد، تحمل الختم الإمبراطوري، لتكون ذكرى لهذه المغامرة، بفرح وعنفوان، ينطلقون عائدين إلى موطنهم متجاوزين أخطار صحراء تكلامكان المظلمة التي لا يتجرأ أي مغامر على اجتيازها، ليصلوا من بعدها إلى بلاد فارس أرض التاريخ والحضارات، متابعين إبحارهم حتى تتراءى لهم شواطئ لبنان وأرزه الشامخ.

وبالتهليل والزغاريد يستقبل الأهالي أبناءهم وضيوفهم العائدين معهم من أطراف بلاد الأرض، مجسدين بنجاح هذه المغامرة العظيمة ليصبح طريق الحرير جسراً لتلاقي حضارات الشعوب شعب الأرض، إنسان واحد وها هو جوبيتر يعود بتيمور الى الزمن الحاضر، وينهي حكايته، قائلاً: "روح يا تيمور وتلاقى مع قدرك ضوّي شعلة الماضي، وجدد مغامرة جدك، لتكون رمز لمجد الإنسانية من جديد".

فريق العمل

يذكر أن "إبحار في الزمن" مسرحية غنائية استعراضية راقصة من بطولة هدى حداد، جوزيف عازار، سيمون عبيد، رفعت طربيه، منير معاصري، إسكندري داوود، نبيل كرم، علي الزين، روميو الهاشم، هشام مغريشي، وسيناريو وحوار وشعر عبدالحليم "كركلا"، وكوريغرافيا إليسار كركلا ومن إخراج إيفان كركلا.

مسار «كركلا»

تأسس عام 1968 على يد المايسترو عبدالحليم كركلا، ليصبح بعدها المسرح الاستعراضي الأكبر والأهم والأكثر تميزاً في الشرق الأوسط. حيث طور لغة جسدية بناءً على قواعد مارثا جراهام في الرقص ودمجها بالتقاليد العربية المميزة ليقدم لنا أسلوب "كركلا" الفريد.

قدم مسرح "كركلا" عروضه في أهم المسارح العالمية وأبرز العواصم الثقافية، مثل مركز جون كينيدي للفنون الأدائية في واشنطن دي سي، وكارنيجي هول في نيويورك، والمركز الوطني للفنون الأدائية في بكين، وسادلر ويلز في لندن ولندن كوليسيوم، ومسرح الشانزليزيه في باريس، ومسرح أوساكا الوطني، وأوبرا ريو دي جانيرو وساو باولو، والأوبرا الملكية العمانية، وأوبرا فرانكفورت، وكوالا لمبور جراند أوديتيوريوم.

ومنذ عام 1968، قدمت "كركلا" أكثر من ستة عشر عرض باليه وموسيقى منها ما هو مقتبس من مسرحيات شكسبير حلم ليلة صيف، وترويض النمرة، وجعجعة بلا طحن.

وبحصولها على العديد من الجوائز الرفيعة المستوى، استحوذت "كركلا" على الاهتمام العالمي، بطابعها الشرقي بثرائه وغموضه، المدعوم بأحدث التقنيات العالمية.

ويتعاون مسرح "كركلا" مع فنانين معروفين عالمياً ورواد في عالم الفنون الأدائية، كما تمتلك مبنى مسرح خاص بها ومدرسة رقص لاحتضان الأجيال الجديدة الباحثة عن فرصة في مجال المسرح الاستعراضي.