البارعون في استثمارات الأسهم يعدون مثل أعضاء هيئة التحكيم في مسابقات الجمال، لا يبحثون عن الجمال الحقيقي، بل عن سمات يعتقد الآخرون أنها تمثل الجمال.كانت تلك الملاحظة التي طرحها جون مينارد كينيز الذي قال إن المستثمرين لا يحققون الربح من خلال اختيار الشركات الأفضل أداء بل عبر اختيار الأسهم التي يسعى اليها التجار، وبكلمات اخرى فإن هذه ممارسة تدعى الجوانب النفسانية الجماهيرية.
وقد أمضيت العقود الطويلة من الزمن وأنا أدرس هذه الظاهرة مع اعتقادي أن واحدة من الطرق التي يمكن أن تتوقع تحركات سوق الأسهم تكمن في تحديد الروايات التي تكتسح أوساط العامة وتؤثر على اتخاذ القرارات المتعلقة بالبيع أو الشراء. ويعتبر مثل هذا التحليل عملاً فنياً شأنه شأن الاعتبارات العلمية على أي حال. والوصول الى هذه النتيجة ينطوي على أهمية بالغة في الولايات المتحدة في الوقت الراهن لأن تقييمات سوق الأسهم عالية الى درجة ينتفي معها الخوف من القلق وضرورة توخي الحذر.ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو هل تمت تهيئة المستثمرين لاحتمال حدوث هبوط رئيسي في أسواق الأسهم؟نحن لا نستطيع طبعاً سبر أغوار عقول المستثمرين ولكن يمكننا مراجعة مقالات صحافية من أجل الحصول على معلومات حول ما يصل اليهم ويسهم في تكوين أفكارهم. وقد لاحظت في تعليق نشر في شهر مارس الماضي أن الدراسات تشير الى أن الناس في الولايات المتحدة يظنون أن أسواق الأسهم مكلفة وعالية الثمن، وسوف يكون ذلك خطراً اذا كان يعني أن العديد من المستثمرين يفكرون في الخروج من هذا السوق، ولكن بينما قمت بتحليل قيم الأسهم لم أنظر الى الأخبار الحالية في سوق الأسهم ومقارنتها مع أدلة من فترات سابقة شهدت أيضاً ارتفاعاً في قيم الأسهم، وهي الخطوة التي سأقوم بها الآن.وسوف أبدأ أولاً بأسعار الأسهم، إنها عالية جداً، وخاصة عندما أستخدم نسبة أرباح السعر التي حددتها قبل حوالي ثلاثين سنة مع البروفيسور جون كامبل الذي يعمل الآن في جامعة هارفارد، وتلك النسبة تمثل بشكل أساسي نسبة الأرباح مع وجود تقلبات سنوية، وبشكل أدق هي سعر التضخم الذي تم تصحيحه بعد تقسيمه على متوسط عشر سنوات من الأرباح الحقيقية.أرباح السعرإن أرباح السعر وصلت الى أعلى من 30 في المئة اليوم، مقارنة مع متوسط من 16.8 منذ سنة 1881 وكانت فوق 30 في فترتين سابقتين فقط، في سنة 1929 عندما وصلت الى 33%، وبين 1997 و2002 عندما ارتفعت الى 44%. الرقم الحالي يثير القلق، وبعد وصول النسبة الى ذروتها في عام 1929 فقدت أسعار الأسهم في أعقاب عملية تصحيحية مدفوعة بالتضخم في الولايات المتحدة أربعة أخماس قيمتها في سنة 1932، وهو أكبر انهيار في تاريخ السوق، وفي الفترة بين 2000 و2003 فقدت نصف قيمتها الحقيقية.وهذا ما يجعل التقييمات الحالية عرضة للخطر، ولكن الأمر تطلب أكثر من مجرد أرقام تقييم عالية لتحديد ذلك الهبوط البشع في الماضي، وقد تمثل المكون الآخر في الجانب النفساني لدى الجماهير، ومن أجل الحصول على معلومات حول ما كان المستثمر يفكر فيه يتعين علينا العودة الى أرشيف الصحف.أولاً، في سنة 1929 وقبل الانهيار الكبير الذي حدث في شهر أكتوبر في سوق الأسهم، قالت الصحف بصورة متكررة إن التجار انهمكوا في مقامرة واسعة النطاق من المضاربة على السعر، وعلى سبيل المثال فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز في الأول من شهر يناير مقالة حول "الأوهام الخيالية" التي دفعت إلى "أكثر مضاربة متهورة في سوق الأسهم"، وقالت تلك المقالة يومها إنه من الممكن – وقبل مرور وقت طويل – حدوث "انفجار في هذه الفقاعة".انتشار الفكرةانتشرت الفكرة القائلة بأن المستثمرين يعملون في أجواء " أوهام خيالية " وأنهم دعموا الأسعار بحيث ارتفعت الى مستويات لا يمكن دعمها في كل مكان في الولايات المتحدة. وتظهر قاعدة بيانات صحيفة "بروكوست" درجة متزايدة من القلق يعود الى أن الاقراض الزائد من أجل دعم شراء الأسهم قد عزز المضاربة على الأسهم التي بدأت في سنة 1927 ووصلت الى ذروتها في عام 1929، وتظهر قاعدة البيانات أيضاً حدوث زيادة مفاجئة في سنة 1928 ثم في 1929، كما تظهر حدوث تفجر في سنة 1928 في استعمال التعبير المعروف باسم "المضاربة الجماعية" في مقالات الصحف المختلفة.وبعد عقود من الزمن، وفي الفترة التي أدت الى انهيار دوت- كوم، الذي بدأ في شهر مارس من سنة 2000 شهدنا نظريات مماثلة غريبة في مقالات الصحف، وفي خطاب في سنة 1996 أثار آلان غرينسبان شبح ما يدعى "الفورة غير المنطقية"، وهو التعبير الذي انتشر في سنة 2000 (وقد جعلت منه عنواناً لكتابي حول الأسواق ونشرته في تلك السنة) وعندما بدأت أسعار أسهم دوت-كوم بالانهيار في عام 2000 كان على الناس اعادة التفكير في افتراضاتهم حول الحكمة من الاحتفاظ بأسهم في شركات الانترنت.وفي مطلع سنة 2000، على سبيل المثال، انتشرت روايات حول مستثمرين حمقى يشترون أي شيء يتعلق بـ "كوم" باسم الشركة – وقد تحولت استثمارات دوت-كوم الى " قنابل دوت-كوم " محرجة، بحسب مقالات صحافية في ذلك الوقت، وقد أثر ذلك على ثقة النفس في مستثمري أسواق الأسهم وربما شمل أيضاً السوق كله. أين نحن اليوم؟تبدو الحالة النفسانية للجماهير في موقع مختلف وأكثر هدوءاً، ولا يبدو أن المستثمرين يشعرون بقلق كما كان حالهم في سنة 1929 أو 2000 من قيام مستثمرين آخرين ببيع موجوداتهم بصورة مفاجئة والخروج من سوق الأسهم. ونتيجة لذلك فإن الافراط في الاقراض يشكل صورة مقلقة ولكن بقدر أقل من فترات سابقة، وعلى أي حال فإن الخوف الواسع الانتشار من أننا أصبحنا في خضم مضاربة جماعية ليس مؤكداً، وبينما ظهرت مقالات في هذه السنة حول الطفرة في أسهم فيسبوك وأمازون وأبل ونتفلكس وغوغل تشير قاعدة البيانات الى أن هذه القضية في حدها الأدنى مقارنة مع درجة الاهتمام التي ظهرت في أواخر التسعينيات من القرن الماضي ازاء أخطار أسهم دوت- كوم.وفي الميدان المالي، انتشرت على نطاق واسع المناقشات المتعلقة بعملة البيتكوين الافتراضية في سنة 2013، وفي هذه السنة أيضاً، وقد تكون هناك فقاعة بيتكوين، ولكن قيمة اجمالية سوقية لها لا تزال أقل من 100 مليار دولار، كما أن الوضع بالنسبة الى سوق الأسهم في رأس السنة المقبلة – 2017 – اشتمل على قدر قليل من المخاوف حول المضاربة التي كانت جلية في سنة 1929.وتجدر الاشارة الى أن سبب هدوء الناس ازاء الأسواق العالية السعر يشكل درجة من الغموض، وربما يرجع ذلك الى أن الناس انصرفوا عن هذا الأمر بسبب التدفق المستمر للانباء حول موقف الرئيس دونالد ترامب من كوريا الشمالية والأعاصير التي اجتاحت الولايات المتحدة والكثير من العوامل الاخرى.ولكن الحصيلة هي أنه فيما تظل التقييمات عالية جداً ليس هناك قلق كبير من قيام العديد من المستثمرين في الولايات المتحدة ببيع موجوداتهم، وقد تتغير الآراء، ولكن بالنسبة الى الوقت الراهن، فإن البعد النفساني يتمثل في أن أسواق الأسهم لا تشبه الوضع الذي كان سائداً في الفترة الخطيرة في 1929 و2000.وعلى أي حال فإن هذا لا يعني عدم وجود خطر حدوث انهيار، ولكن بالنسبة الى الوقت الراهن لا يوجد خوف من ركود متصاعد في المستقبل القريب.
مقالات
عوامل نفسانية تدعم تحسن أسواق الأسهم الأميركية
28-10-2017