عزا الباحث المصري أسامة السعيد فشل تجربة الإسلام السياسي إلى ثقافة الانغلاق التي عاشها من ينتمون إلى تلك التجربة، وسعت دراسته إلى توفير رؤية أكثر شمولاً لتحولات تيار الإسلام السياسي، فضلاً عن رصد تباينات الصورة المقدمة في أكثر من بلد عربي، وفي الصحافة العربية الدولية، ما يسدّ نقصاً في مجال الدراسات الإعلامية العربية بهذا المجال.

بينت الدراسة وجود انعكاس ملموس لوسائل الإعلام عموماً، والصحافة خصوصاً، في تشكيل الصورة الذهنية واتجاهات الجمهور في الدول العربية التي شهدت ثورات في السنوات الأخيرة إزاء الإسلام السياسي، إذ أشارت نتائج تحليل المحتوى الصحافي، ونتائج الدراسة الميدانية للجمهور، إلى توافق واضح بين أولويات القضايا التي تصدرت المضامين الصحافية عن تيار الإسلام السياسي، وبين أهم القضايا التي احتلّت الأولوية لدى جمهور العينة. كذلك أوضحت النتائج التأثير الذي تؤديه التجربة الخاصة بكل دولة في المضمون الصحافي، وعلى ترتيب أولويات الجمهور.

Ad

قضايا

بينما جاءت قضايا مثل استحواذ جماعات الإسلام السياسي على السلطة، والدعم الخارجي لها، والازدواجية في الخطاب والمواقف من تلك الجماعات وقياداتها لتتصدر أبرز القضايا التي تضمنها المحتوى الصحافي وانعكست كذلك على أولويات الجمهور المصري، بدا لافتاً تصدّر قضايا كالعنف المسلح، وانتشار الجماعات الإسلامية المتشددة، وتأثيرات الإرهاب، والدعم الخارجي لتلك الجماعات أولويات الصحف والجمهور الليبي على حد سواء، في مقابل تصدر قضايا الانتخابات النيابية والرئاسية، والمنافسة السياسية، والإرهاب، أولويات القضايا في المحتوى الصحافي ولدى الجمهور التونسي، ما يشير إلى الحضور الطاغي لتأثير التجربة السياسية لقوى الإسلام السياسي في الحكم في مصر، وانجراف المشهد الليبي إلى العنف، والتشتت الواضح بين التحول الديموقراطي، والاندفاع إلى العنف في تجربة القوى الإسلامية التونسية، في صحافة وجمهور كل دولة على حدة.

وكشفت الدراسة بوضوح ترسخ صورة سلبية عن قوى الإسلام السياسي، اعتمدت في معظمها على سمات أساسية لتلك القوى تمحورت إجمالاً في وصفها بالازدواجية والانتهازية، فضلاً عن الخلط بين الدين والسياسة من أجل الوصول إلى السلطة، بالإضافة إلى سمات التآمر، والارتباط بمشروعات غير وطنية، وسمات تتعلق بالتطرف الفكري، واستخدام العنف، ورفض الآخر فكرياً وسياسياً.

ميراث الانغلاق

أوضحت الدراسة فشل قوى الإسلام السياسي في الاستفادة من فرص أتاحتها حقبة الثورات العربية، وفي مقدمها الانفتاح السياسي والإعلامي غير المسبوقين، فـ{ميراث الانغلاق» حال دون الانخراط في ذلك الانفتاح، والاستفادة منه في الوصول إلى شرائح أوسع من المجتمعات العربية غير تلك المنتمية تنظيمياً أو المتعاطفة مع جماعات الإسلام السياسي، والتي ثبت أنها لا تمثل الغالبية المطلقة في المجتمعات العربية كما أثبتت الدراسة. واتجهت القوى الإسلامية إلى تغليب اعتبارات الصراع الأيديولوجي، مستخدمةً خطاباً استقطابياً تحريضياً تجاه التيارات المختلفة معها، سواء عبر قنواتها السياسية أو الإعلامية، التي تبنت خطاباً أيديولوجياً صارخاً، وأعلت من معايير الولاء السياسي على اعتبارات الكفاءة المهنية، ففشلت في الإسهام في تحسين صورة القوى الإسلامية، أو الوصول إلى «الغالبية الصامتة» من خلال تبني قضاياها أو اعتماد خطاب وطني مقبول لدى تلك الغالبية، الأمر الذي أدى إلى ضعف تأثير الوسائل الإعلامية الموالية للإسلام السياسي في الجمهور.

أشار الباحث في دراسته إلى أن الغالبية الكاسحة من الجمهور العربي ليست لديها انتماءات أيديولوجية أو حزبية، ما يمثل، من وجهة نظره، فرصة كبيرة إزاء تنافس سياسي حقيقي عبر برامج جماهيرية تجذب شرائح واسعة من هذا الجمهور، وتكون أساساً لتجربة ديموقراطية، لا سيما في مرحلة تحوّل كبيرة كتلك التي شهدتها المجتمعات العربية عقب الثورات. إلا أن مسار الحوادث، يكشف في المقابل ضعفاً جوهرياً في البنية السياسية العربية على تنوعاتها الفكرية والأيديولوجية، فلم تفلح لا قوى التيار الإسلامي ولا التيار المدني، بحسب ما أوضحت نتائج الدراسة، في تقديم تجربة تنافسية حقيقية تقنع قطاعات واسعة من الجمهور في الانضمام إليها. بل إن مسارعة قوى الإسلام السياسي إلى تحويل التنافس السياسي إلى صراع أيديولوجي ديني أو طائفي، عجل نهاية تجربة التغيير التي شهدتها مجتمعات الثورات العربية، فتحركت «الغالبية الصامتة» في مصر لإنهاء حكم جماعة «الإخوان المسلمين» بعد عام فقط وسط مخاوف عميقة من استمرار هذا الحكم بالمنهج الذي اتبعه، فيما انزلقت القوى الإسلامية الليبية إلى استخدام العنف، وتحوّل التنافس السياسي بين القوى والأحزاب إلى صراع بين ميلشيات مسلحة. بدورها، بدت التجربة التونسية أقل صداماً، نتيجة لتغليب تيار الإسلام السياسي فيها ضرورات التوافق على اعتبارات الصراع. لكن الساحة التونسية ليست بمأمن أيضاً من تحولات فصيل إسلامي أكثر تشدداً لم يقبل بذلك المنهج الذي أعتبره تنازلاً، ودخل في مواجهة ضد الدولة.

غياب المشروع

كشفت نتائج الدراسة وجود أزمة حقيقية في ما يوصف بـ «مشروع الإسلام السياسي»، بعدما بنت القوى الإسلامية العربية شرعية وجودها في المرحلة التي سبقت الثورات، واستطاعت تصدر المشهد السياسي عقب الثورات، من خلال تأكيدها امتلاك مشروع إسلامي بديل على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كافة، إلا أن نسق الأداء الذي قدمته تلك القوى بتنوعاتها المختلفة كشف، إضافة إلى كثير من الأبعاد الأخرى، غياباً واضحاً لهذا المشروع، وأن ما قدمته تلك القوى لم يكن سوى رؤية خطابية لا تعتمد على تأصيل فكري أو ثقافي أو سياسي حقيقي.

وأكّدت الدراسة أن تيارات الإسلام السياسي لا تتردّد في إبداء براغماتية سياسية واضحة، وعندما تعلن مرجعيتها الدينية، لا تفصل القول في كيفية بناء هذه المرجعيات وتأويلها، في علاقتها بواقع المجتمعات المعاصرة. ولم يزد المشروع الذي قدمته تلك القوى عن كونه «مشروع سلطة» من دون أن يتجاوز إلى أن يكون «مشروع تغيير»، وهو ما عكسته نتائج الدراسة التحليلية والميدانية، من تكريس تلك السمات التي ارتبطت منذ فترة طويلة بصورة القوى الإسلامية، لا سيما ما يتعلق بالسمات الفكرية الخاصة بالانغلاق والتشدد واستغلال الدين لخدمة المصلحة السياسية، فضلاً عن رفض التيارات المعارضة، واللجوء إلى العنف والارتباط بقوى غير وطنية ومشاريع خارجية للمنطقة، وكلها سمات سلبية، لم يفلح أداء القوى الإسلامية في تغييرها، بل ربما أسهم في تكريسها وترسيخها.