الأمم الحية يجب أن يكون لديها مستقبل؛ ومن الممكن ضمان ذلك فقط عبر استيعاب دروس الماضي.يصعب جداً إيجاد أمة تحافظ على مكانتها من دون أن تقرأ ماضيها جيداً، وتستوعب دروس التاريخ، وتحترمها، وفي المقابل ثمة ما يمكن أن نجده في نهاية كل دولة وسقوط كل سلطان، كما لو كان قاسماً مشتركاً أعظم؛ إنه ببساطة: الوقوع المتكرر في الأخطاء ذاتها.
في مثل تلك الأيام قبل خمسة عقود، كانت القوات المصرية في اليمن، والتي بلغ عديدها آنذاك ما بين 50 إلى 70 ألف مقاتل، تستعد للمغادرة من ذلك البلد الصعب، بعد أكثر من خمس سنوات من القتال الشرس والخسائر الكبيرة، إثر اتفاق سياسي، عُقد على هامش هزيمة عام 1967 الكارثية.لقد بدأ التدخل المصري في اليمن آنذاك، في عام 1962، بداعي نصرة "الثورة" و"إقامة الجمهورية"، ضد تحالف الملكية اليمنية، وطبيعة اليمن الوعرة والشائكة، وتقليديته التي تتحول سياجاً من الضعف والحماية في آن.الدرس الذي يمكن حساب تكاليفه الآن كان مباشراً وواضحاً: أرسلت مصر سرية واحدة إلى اليمن، إثر اعتقاد بأن الحرب هناك ستكون سهلة والنصر سريعا وفي الإمكان، لكن تلك السرية ما لبثت أن ساخت أقدامها في رمال الجبال الصعبة، ولم تنجز المطلوب، مما اقتضى إرسال أفواج أخرى من المعدات والمقاتلين، الذين بلغ عديدهم عشرات الآلاف.كانت تلك "فيتنام مصر"، كما أسماها المؤرخون، وكما اقتنع بذلك عبد الناصر نفسه، لكن اقتناع هذا الزعيم التاريخي بكون اليمن نسخة من فيتنام، التي أعجزت الولايات المتحدة، ومرغت أنفها في التراب، لم يحدث في الجلسة التمهيدية التي عقدها مع أركان حكمه للإعداد لدخول الحرب. لقد كان هناك سياسيون بارزون وقادة عسكريون مهمون يحذرون من التدخل عسكرياً في اليمن، لكن الرئيس الذي كان يبحث عن نصر سياسي ومعنوي يعزز أسهمه ويكيد أعداءه، لم يهتم بتلك الآراء، وبدلاً من أن يدرسها ويختبر صحتها، أبعد قائليها، واتهمهم بالتخاذل.لم يكن هذا هو الدرس الوحيد الذي أبقاه عبد الناصر لنا، فثمة درس آخر يتعلق بالوحدة مع سورية، وهي وحدة عقدت على عجل، مدفوعة بمشاعر رومانسية قومية، ومد شعبي طاغ، لم يؤمن لها الاستمرار أكثر من ثلاث سنوات (1958- 1961)، لكي تتحول ندبة سوداء في تاريخ العلاقات العربية وفي سجل مصر الناصرية، بعدما أخفقت في الاستمرار في غيبة الأسس الموضوعية والترتيب المؤسسي اللازم لإدامتها وصيانتها. ثمة درس ثالث لا يمكن نسيانه؛ إذ اندلعت الحرب بين إسرائيل من جانب، ومصر والأردن والفلسطينيين وسورية من جانب آخر، في عام 1967، لتنجح الدولة العبرية في تحقيق انتصار ساحق، واحتلال أراض عربية ما زال بعضها في حوزتها حتى اليوم من دون أفق واضح لاستردادها.حين اندلعت الحرب آنذاك، كان الإعلام المصري يريد أن يؤدي دور أداة الدعاية المخلصة للنظام، التي ترفع الروح المعنوية للقوات النظامية وللجمهور، وتقنع المواطنين والعرب والعالم بأن القوات المصرية تبلي بلاء حسناً. وفي ظل الاندفاع الإعلامي، وبمواكبة فورة المشاعر الوطنية والقومية، راحت وسائل الإعلام الجماهيرية، تنقل عن بيانات رسمية أن وسائل الدفاع الجوي الوطنية تسقط عشرات المقاتلات الإسرائيلية المغيرة، وتحقق الانتصارات ضد "العدو الصهيوني".لم يستمر الأمر على هذا النحو سوى يومين، قبل أن يبدأ الجمهور بمعرفة الحقائق عبر الأخبار الحية التي ترد من الجبهة، ووسائل الإعلام الأجنبية التي تيسر التقاط بثها آنذاك.وبموازاة الصدمة التي انتابت الجماهير، خرج الزعيم عبد الناصر ليقر بالهزيمة، ويعلن تحمله المسؤولية عنها، ويقرر التنحي عن الحكم، قبل أن تخرج الجماهير لاحقاً لترفض تنحيه، وتطالبه بالاستمرار في الحكم، وصولاً إلى "إزالة آثار العدوان".لا يمكن القول إن النخبة السياسية المصرية لم تتعلم من تلك الدروس، بل كان هناك ما يوضح دائماً أنه تم إدراك الأبعاد الاستراتيجية لتلك الأخطاء، وتم التحسب لبعضها على نحو واضح.سنعلم لاحقاً أن مصر أدارت حرب أكتوبر 1973 بدرجة أكبر من الاحترافية والرشد، وأنها وضعت لنفسها أهدافاً من الحرب يمكن تحقيقها، ويمكن قياس نتائجها، وأنها رافقت ذلك بإدارة اتصالية أكثر وعياً وتحفظاً.وسندرك أيضاً أن مصر وعت درس "الوحدة المتعجلة" مع سورية، وراحت تحافظ على سياسة محافظة في مشروعات الوحدة اللاحقة؛ وحافظت على خطوط محددة للاندماج وأسقف واقعية للأحلام، بحيث كان الإعلان عن فشل تلك المشروعات الوحدودية غير مآساوي ومؤثر كذلك الذي حدث في ملف الوحدة مع سورية.وقد نجد أيضاً في موقف القاهرة المتحفظ عن إرسال جنود إلى اليمن في معية التحالف العربي، أو المتحسب للدخول في المستنقع الليبي رغم خطورة الأوضاع هناك وتهديدها المباشر للأمن القومي المصري، مما يفيد أن دروس الماضي تم استيعابها في هذا الصدد.قبل عشرة أيام، منيت قوات الشرطة المصرية بضربة مؤثرة وموجعة خلال عملية مداهمة أرادت تنفيذها في منطقة الواحات (135 كيلومتراً جنوب القاهرة)، حيث أسفرت تلك العملية عن هزيمة تلك القوات، ومقتل عدد من أفرادها، في نصر حاسم للمجموعة الإرهابية التي فر أعضاؤها، قبل أن تواصل الحكومة محاولة الوصول إليهم لضبطهم أو القضاء عليهم. لم تتعامل السلطات الأمنية المصرية مع هذا الحادث بشكل يعكس استيعابها لعديد الدروس التي يجب احترامها في تلك المنازلة الشرسة الممتدة؛ ومن ذلك أنها راحت تقاتل دون أن تمتلك المعلومات الكافية عن طبيعة العدو والميدان، كما أنها عتمت على أخبار المواجهة لساعات، فتركت الساحة خالية للأخبار السوداء الصادرة عن الأعداء أو المناوئين، وفضلاً عن ذلك فإنها لم تعلن مراجعة لأسلوبها في المواجهة، بشكل يجعلها أكثر نجاعة وأقل عرضة للإخفاق.يجب أن نقف جميعاً مع الحكومة المصرية في مواجهتها الصعبة مع الإرهاب، لكن الحكومة بدورها يجب أن تقف مع نفسها، عبر استيعاب دروس الماضي، وتطوير استراتيجيتها وتعزيز أدواتها لكي تحقق النجاح المأمول.* كاتب مصري
مقالات
مصر... دروس معركة الواحات
29-10-2017