لا يمكن إطفاء الحلم الكتالوني بالقوة
من المذهل ما يمكننا تعلّمه من سلوفينيا، ففي مؤتمر السياسات والأمن والتنمية في بليد مطلع هذه السنة، حالفني الحظ وتبادلت أطراف الحديث مع الموفدين الكتالونيين، الذين كانوا يمثلون بفخر مصالح إمارتهم القديمة وحكمتها، فبدوا لي بكل وقارهم وهدوئهم كمن يردد كلمات بريكليس للأثينيين: لا نقلّد أحداً، بل نشكّل نموذجاً للآخرين؛ لذلك لا أفاجأ عندما ألاحظ مقدار الخوف الذي تشعر به مدريد بكل وضوح نتيجة إعلان كتالونيا الاستقلال الأحادي الطرف.ثمة الكثير من الحجج المقنعة التي تعارض الانفصال، ولعل أبرزها الانقسام الشديد في كتالونيا نفسها حول هذه المسألة، لكن مدريد، بمساعدة بروكسل، تبدو عاقدة العزم على تأجيج المشاعر الانفصالية بدل السعي وراء حل دبلوماسي لهذه الأزمة. قد يكون الاستفتاء بشأن الاستقلال، الذي عُقد في الأول من أكتوبر، غير شرعي من الناحية التقنية، كما تؤكد المحكمة الدستورية الإسبانية، إلا أن الأسلوب العنيف عموماً الذي عرقلت به الشرطة الوطنية والحرس المدني الاستفتاء يجعل لجوءاً مماثلاً إلى حكم القانون أشبه بواجهة تجميلية زائفة لاستبداد وضيع.
بدت استراتيجية راخوي جامدة إلى أبعد الحدود، ففي كل مناسبة، ندد بحركة الاستقلال معتبراً إياها مجرد مناورة "للقضاء على دستورنا"، ومؤامرة "إجرامية"، و"انتهاكاً واضحاً للقوانين، والديمقراطية، وحقوق الجميع"، ولكن في عصر تعمه التغييرات الفوضوية كعصرنا، علينا أن نسمع صوت التاريخ بدل أن نسكته، فقد تفسّر الذكريات السيئة أخطاء اليوم، مع أنها لا تبررها، إذ يُظهر راخوي أنه ليس على قدر هذه المرحلة، فما الاكتفاء بالتأكيد أن القوانين قد انتُهكت وأنها ستُطبق إلا مقاربة بائسة إلى معضلة ثقافية بالغة التعقيد.لنتأمل هذه المسألة: إذا أردنا أن نضع محوراً عاماً لمطلع القرن الحادي والعشرين، يكون أن النظام القائم على قواعد، والذي بدا ناجحاً عام 1989، يواجه اليوم سلسلة من التحديات الأساسية، ولعل أبرزها تفتح الميول الانفصالية، والقبلية، والمقاومة الشعبية في وجه النخب المتعالية، ففي عصر الاضطرابات، والترحّل، والثورة التكنولوجية هذا، عاود الانجذاب إلى المكان والمساحة الظهور، وبرز فجأةً التوق إلى ما دعاه هايدغر "المسكن". في بعض الحالات، كما في شاروتسفيل، يتخذ هذا شكلَ قومية "الدم والأرض" المقيتة، لكن الغريزة لا تكون دوماً المذنب، فلا يُعتبر طوق الكتالونيين إلى أمة خاصة بهم خطأ بالضرورة، مهما كانت الأوجه السلبية غير الملائمة المترتبة عليه.على مَن منا ما زالوا يقدّرون النظام الدولي القائم على قواعد أن يقروا بأن كثيرين لا ينجحون في التعاطي مع تقلبات الحداثة، وقد تجلى هذا الواقع بوضوح من خلال استفتاء السنة الماضية بشأن الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب رئيساً. إذاً تزعزع مفهوم أن السياسة تشكّل ببساطة فرعاً من الاقتصاد، واكتسبت مسألة الهوية أهمية جديدة نتجاهلها، معرضين أنفسنا للمخاطر.أرتاب بشدة من الشعبوية التي تقدّم حلولاً سهلة لمشاكل معقدة، فعلى غرار معاداة الهجرة، لا يمكن للانفصال أن يكون العلاج الذي يدّعيه مناصروه. ما زلت أؤمن بالنظام الليبرالي، الدول-الأمم العملية، والاتفاقات الدولية التي تتيح التعاون العالمي في ما بينها، ولكن من العبث الادعاء أن هذا النظام ما زال قوياً ومتيناً في عام 2017.نقف اليوم في مستهل مناظرة بالغة الصعوبة بشأن مستقبل هذا النظام وكيفية تكييفه ليعالج مظالم العولمة، وقوة التكنولوجيا المحوّلة، وخوف المجتمعات الكبيرة والصغيرة من أن يجتاحها إعصار التغيير، وإذا كانت الأزمة الكتالونية تحمل لنا درساً اليوم، فهو أن رد مدريد (الحركة الدستورية القمعية، إذا جاز التعبير) لا يشكّل حلاً البتة، ولا شك أن تكرار الكلام ذاته بصوت أعلى لن يصون وحدة إسبانيا أو أي دولة أخرى، ففي التطورات التاريخية يبقى الخطأ الأكبر الاعتقاد أن ثمة نصاً يمكن التقيد به.* ماثيو دانكونا«الغارديان»