الإحساس بالقوة المفرطة... مدمر!
لم تعد العلاقات بين الدول، وخاصة في العالم الثالث، يرسم ملامحها حجمُ الدولة ومدى قوتها العسكرية فقط، بل هناك عدة عوامل أخرى مهمة وحساسة، وهي قدرتها على التأثير في محيطها اقتصادياً وثقافياً وعلمياً، ما عدا استثناءات بسيطة، ولم يعد أيضاً من الممكن حل النزاعات عن طريق التلويح بالقوة العسكرية، أو ابتلاع الكبير للصغير، كما يحدث في أعماق البحار، في عصرنا هذا الذي أصبح تثبيت حقوق الدول ووجودها محفوظين بضمانات دولية وتحالفات أممية.وهناك عدة أمثلة على ذلك أهمها تجربة صدام حسين مع الكويت، والتي انتهت بكارثة له ولبلده، وكذلك تنمر سورية بنظام الأسد على لبنان الذي انتهى بسيطرة ميليشيا لبنانية بدعم إقليمي على سورية الكبرى، وفقدان اندونيسيا الضخمة بعدد سكانها ومساحتها إقليم تيمور الشرقية، وتفكك الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا، وأمثلة أخرى مشابهة حول العالم.
الإحساس المفرط بالقوة لبعض الكيانات، واستصغارها لدول أخرى أقل منها مساحة وسكاناً أمر خاطئ، والتعامل معها أيضاً بتعالٍ ونبرة متكبرة وهمٌ مدمر، خاصة إن لم يكن لدى تلك الدول الكبيرة حريات ومشروع اقتصادي وثقافي وعلمي فاعل، كما تفعل روسيا حالياً، وبعض الدول كذلك تلعب نفس الدور في إقليمنا ومناطق أخرى في العالم. ربما تشجع قوى كبرى، دولة إقليمية ضخمة أو أكثر على فتح عدة جبهات في وقت واحد لاستنزافها وتحقيق أغراض معينة لتفتيتها، في حين تنساق هذه الدول في اللعبة دون أن تعي المخططات التي تُرسَم لها، وتبدأ في معارك سياسية وعسكرية وإعلامية ورياضية في اتجاهات مختلفة تُجهدها وتخلق لها عداءات، وتُجرِّئ أكثر من طرف، كان يحترمها ويخشاها، على مهاجمتها والتصدي لها. لذا فإن تعزيز قوة الدول الإقليمية الكبرى يتم عبر تكريس احترامها للكيانات الأصغر منها، وتضخيم الشراكات الاقتصادية والثقافية معها عبر التفاهمات السياسية، وتحاشي الصدامات قدر الإمكان بشعار "صفر مشاكل"، ودون ذلك فإن عصرنا الحالي لا يمكن أن تتم فيه تسويات بالقوة ولغة التعالي، لأنها ربما تفرضها دول كبيرة فترة ما، ولكنها لا تستمر، وتنتهي بنتائج كارثية على مَن فرضها بهيمنته وقوته.