يعتبر التراث حائط الصد الأخير أمام إعصار العولمة، الذي يوشك أن يطيح بثوابت مجتمعات وعادات دول، مما يضعنا أمام تحد كبير للحفاظ على إرثنا ونقله للأجيال المقبلة، حتى لا نترك أبناءنا على أرض رخوة دون جذور تغذي هويتهم وانتماءهم، وتثبت أقدامهم ليواجهوا محاولات العالم للعبث بماضيهم.

من هذا المنطلق، احتل التراث مساحة كبيرة على جدول فعاليات وأنشطة مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي خلال أكتوبر الماضي، وكان ختامها مسكا مع ليلة "فن الأصوات" التي أقيمت أمس الأول على مسرح الشيخ جابر العلي أمام حضور كبير زحف إلى دار الأوبرا متحديا تقلبات الطقس، وآملا تنسم عبير التراث بأصوات فناني الصوت الشعبي سلمان العماري، ويوسف الجدة، وخالد العجيري، ويوسف ياسين، وقيادة المايسترو الدكتور محمد باقر، بمصاحبة فرقة مركز جابر الثقافي.

Ad

الصوت الكويتي

واحتفي مركز الشيخ جابر الأحمد في ختام فعاليات الموسم الثقافي بفن الصوت الراسخ في وجدان الكويتيين تقديرا لأهميته ومكانته في تاريخ الكويت والمنطقة، وجاءت هذه المبادرة بشكل معاصر وبمشاركة فرقة مركز جابر، ونخبة من الفنانين، مراعين الأساليب التقليدية في أداء الأصوات، ومحافظين على مكوناتها التراثية ليحققوا بذلك المعادلة الصعبة.

وعزفت الفرقة في هذه الأمسية عددا من الألحان الأقل شيوعا، بجانب الأصوات المشهورة والمألوفة في ذاكرة المستمعين، في تشكيلة تجمع بين الأنواع المعروفة في غناء الصوت، والأصوات الكويتية والبحرينية القديمة، والألحان المحدثة على قالب الصوت الكويتي.

وفي تمام الساعة الثامنة، رفع الستار عن أعضاء فرقة مركز جابر، وقد اتخذوا مواقعهم ليستهلوا رحلة إلى زمن الفن الجميل، فكانت البداية مع الكورال الذي قدم "الاستماع العربي" من خلال مقطوعة "إن هند يرق منها". بعد ذلك أطل الفنان يوسف الجدة ليبدأ وصلته بالصوت العربي ويؤدي بتمكن أغنية "لان الصخر"، الذي أتبعها بالصوت الشامي من خلال أغنية "أهلا وسهلا بمن"، ويمضي الجدة في فقرته ليصول ويجول متكئا على حنجرة ذهبية، ويستمد ثقته من حماسة الجمهور وعبارات الثناء على الأداء قبل أن يفسح المجال للفنان خالد العجيري الذي اختار أن يبدأ فقرته بالصوت العربي، ويشدو بأغنية "زارني بالحجي" وينهل من نهر التراث لينثر الطرب على الحضور عندما يغني "خطرت كغصن"، ويختتم الجدة وصلته الأولى بـ"سلوا الكاعب الحسناء".

انطباع إيجابي

أما الفنان سلمان العماري فاختار في ظهوره الأول أن يقدم الصوت الشامي عبر أغنية "يا بديع الجمال"، وجاء الاختيار الثاني للعماري من الصوت الخيالي عبر أغنية "سلمولي على اللي"، قبل أن يغادر المسرح وقد ترك هو وزملاؤه من فرسان الجزء الأول من الحفل انطباعا إيجابيا لدى الحضور.

الصوت العربي

ويمر الوقت سريعا قبل أن يبدأ الجزء الثاني من الأمسية، ليعود الفنان يوسف الجدة للظهور مجددا على المسرح، ويختار من الصوت الشامي أغنية "إلى محياك نور البدر"، ويتبعها بأغنية من الصوت العربي "هلي وعندي ما تريد"، قبل أن يفسح المجال للفنان يوسف ياسين الذي اختار أن يشدو بأغنية "الحمد لمن قدر خيرا"، وهي تنتمي للصوت الخيالي، بينما كان اختياره الثاني من الصوت الحربي فقدم "يا بدر يا مزري الغزلان" ليغادر وقد طبع بصمته في أمسية استثنائية.

وكان الظهور الثاني للفنان سلمان العماري مسك ختام الحفل عندما اختار من الصوت العربي أغنية "يا نسيم الصبا"، ومن الصوت الشامي "بات ساجي الطرف"، ليضع كلمة الوداع في عهدة الفرقة الموسيقية التي قدمت ختاما كويتيا بأغنية "علامه ما ينابيني".

نشأة فن الصوت

وشهد فن الصوت منذ نشأته في الكويت في منتصف القرن التاسع عشر على يد عبدالله الفرج تطوراً كبيراً، ليتشكل بأشكال مختلفة من أساليب الغناء والتلحين، سواء في الكويت أو الخليج العربي فهو، تاريخيا، الفن المحلي الوحيد الذي كان يتطلب آلة العود لأدائه، في حين أن بقية الفنون المحلية كانت تعتمد في أدائها على الطبول فقط. كان العود المستخدم في أداء الصوت قديما مختلفا عما هو شائع اليوم، وكان يطلق عليه اسم العود الهندي بسبب جلبه من الموانئ الهندية آنذاك.

وبدأت رحلة الفنان عبدالله الفرج مع فن الصوت لدى عودته من الهند حاملا معه عوده ليفتتح ديوانه الموسيقي المعروف باسم "ادخينه"، ويقدم فيه لأصدقائه وزائريه فنه المبتكر الذي أطلق عليه "الصوت"، واستمر الفرج في تقديم أصواته، إضافة إلى تعليم عدد من الفنانين الذين استمروا في تقديم ما أخذوه من أستاذهم، وأضافوا على هذه الألحان؛ إما بتطوير بعضها أو تقديم ألحان جديدة.

ومن أبرز تلاميذ الفرج خالد البكر، المتوفى عام 1925 في دسمان، وإبراهيم بن يعقوب، المتوفى عام 1928 في فيلكا.