نسمع دوما أن الرجل عندما يكبر يعود كالطفل الصغير، لكنهم لم يخبرونا أن الرجل حينما يفقد والدته يرجع رضيعا تائها يبحث عمن يؤنسه في وحشته ويدخل الفرح إلى قلبه.لا أبالغ إن قلت أن أصعب اختبار يمكن أن يمر به الإنسان عندما يُطلب منه الحديث عن والدته، وهي على قيد الحياة، قريبة منه ينهل من نبع حنانها، ويكحل ناظريه يوميا بعينيها اللتين تحويان عطف وحنان الدنيا بأسرها، فكيف يا ترى ستكون الحال إن أراد التعبير عن هذه الإنسانة العظيمة والرحمة الإلهية حين يفقدها في لمح البصر؟!
يا له من امتحان وما أصعبه من موقف، فالمفردات تجد نفسها محرجة وخجولة لا تستطيع أن تتغنى بعطاءات الأم، وأين يمكن أن ترسو سفينة الدنيا الفانية للتعبير عن ذلك القلب الصابر، وتلك الأيادي الحانية التي حملت وداعبت ومسحت الدمعة ورسمت لوحات الفرح في أحلك الظروف؟ وأين الكلمات التي يمكنها حمل ذنب التقصير في وصفك أيتها الكريمة الغالية؟! كم هي لحظات جميلة تلك التي كانت قبل سنوات عندما كنت أنام بجانبها متلحفا عباءتها ذات الرائحة المميزة، ليتها تعود أيام الجلوس على سريرها لتسألني "ماذا تريد أن أعطيك من هذه الحلويات"، يكون جوابي "بعد قلبي يا يمه"، فترفض قائلة "لا تفديني بقلبك لأنني أخذت حقي من الدنيا"، فمن بعدك يا حبيبتي يسألني عن حالي وأولادي؟ لو تعلمي كم كنت متلهفا كثيرا للبكاء على صدرك خلال الأشهر الماضية بحثا عن الأمان، لكن وبكل حرقة أقول خفت أن أزيد من أوجاعك التي لم تتوقف يوما!!أمي... تحملت مشقة الحياة في شبابها، وفي كبرها عانت الفراق والفقد، لكنها ظلت شامخة كما يعهدها الجميع، فسنوات العمر المحملة بشتى أنواع الألم لم تنل منها، بل تغلبت وبكل قوة على مر الليالي والأيام والمعاناة بالصبر والإيمان بقضاء الله، فاستحقت أن تكون لنا جميعا وطنا نستظل به في الرخاء قبل الشدة، وما أغلاه من وطن. أنا في هذا المقام لا أرثي والدتي، رحمها الله، فالنهر الذي يجود بالعطاء والكرم والتضحية، من الظلم وصفه بكلمات محدودة المساحة، لكنني في واقع الأمر أشعر بالأسى على نفسي وعلى إخوتي الذين أيقنوا فجأة أن الحياة توقفت مع رحيل الحبيبة أنيسة البيت وجنة الله في أرضه.ختاماً يا نور عيني، يا من اتصفت بكل ما هو جميل، وتحملت كل هم ثقيل، أقول لك صراحة إنني وبعد مرور عدة أيام على فقدك، ما زلت أعتقد أن رحيلك هو مجرد حلم أتمنى أن يوقظني أحدهم منه سريعا!!
مقالات - اضافات
عندما تتوقف الحياة!!
03-11-2017