ذاكرة الإنسان هي صندوق ذكرياته، الذي لا يخلو من قصص وحكايات مرت به وعاشها، لكنها بقيت في صندوق الوجدان تلازمه على مر السنين بأغلب تفاصيلها وبهجتها في كثير من الأحيان.يتساءل بعضنا حين تقفز هذه الحكايات وتحطم صندوق الذاكرة لتحتل خيالنا مرة أخرى، لماذا نَحِنُّ إلى بعضها ولا نريد أن ننساه بينما هناك من الأحداث ما لا نريد حتى أن يمر طيفها في خيالنا؟! فنسعد حين نكتشف فيها قيماً غابت عنا لصغر السن أو عدم القدرة على فهمها و إدراكها... نضحك أو نسخر من بعضها، وقد نحزن من بعضها الآخر بعد أن اتسعت مساحة إدراكنا وبات واضحا أمامنا ما كنا عاجزين عن فهمه، وهنا نشعر بإحساسنا الكامن فينا عبر الزمن وكنا نظنه مات لكثرة ما وطئته أقدام الأحداث، غير أن تراكـُم الحكايات صقل شخصياتنا دون أن ندري أنه سيكون ساطعا ذات يوم حين تخرج الذكريات من صندوقها الذي هو عمرنا وتاريخنا.
قد تتشابه الحكايات والقصص في الجيل الواحد ولكنها بالتأكيد لن تكون متطابقة تماما مع جيل آخر أكثرحداثة بأدواته ومميزاته وعاداته، وهذا ما يجب على الإنسان أن يدركه ويفهمه ليكون قادرا على التعامل مع مستجدات الحياة بعيدا عن النرجسية والتغني بما دُفن في الماضي ولم يبق منه إلا ذكريات يترحم البعض على ما فيها من جمال ظنا أن جمال الحياة ويسرها قد توقف عند تلك الذكريات، وهذا غير صحيح!في ذاكرة الكبار أحداث مهمة وحكايات فيها عبر ودروس لا تفارق وجدانهم وهم حريصون على أن ينقلوها إلى غيرهم عسى أن ينتفعوا بمميزاتها أو يتجنبوا مساوئها،وهذا يتكرر في كل المجتمعات وعلى كل مستوياتها، قد تكون المراحل الدراسية من أهم ما يعلق في ذاكرة الفرد لما لها من تأثير على حياته فيما بعد، فمنها تتكون شخصيته وتتوسع معرفته العلمية والحياتية وتُصقل شخصيته الاجتماعية مع مراحل أخرى خلال مسيرته.كثيرا ما نسمع المقارنة بين مَدرسة الأمس ومَدرسة اليوم، وتلميذ الأمس وتلميذ اليوم، ولعنا نجد في الذاكرة ما نضيفه هنا بأن التلميذ في زماننا اليوم ليس هو تلميذ الخمسين عاما الماضية، وأدواته مختلفة وطريقة استقباله وعطائه مختلفة تماما، كانت فرحة التلميذ في نهاية اليوم المدرسي لا توصف، ليس كـُرها في المدرسة، ولكن أغلب الظن كان ذلك مما يلقى على كاهله من أحمال تبدأ منذ دخوله الفصل صباحا بالكثير من الأسئلة التي كان المُدرس يتخيرها شاقة على التلميذ الذي لم تكن أدوات البحث والاطلاع متوافرة له كما هي اليوم، فضلاً عما كان يكلف به من واجبات مدرسية في أكثر من مادة في منهج فيه الكثير من"الحشو"، الأمر الذي لم يوفر الفرصة والوقت الكافي للتلميذ للاستمتاع بجزء من يومه في اللعب أو هواية يريد أن يجد لها الوقت، ناهيك عن واجبات أسرية يكلف بها التلميذ أو التلميذة بمجرد دخوله البيت عائدا من المدرسة. تلميذ اليوم، وخصوصا في البلاد المتقدمة، لا يعاني ضغط الواجبات المدرسية وحملها إلى البيت، إذ يتم كل هذا التكليف داخل الفصل في اليوم الدراسي، فيجد التلميذ الفسحة التي تكمل نموه باللعب وممارسة هواياته التي توقظ في داخله روح الإبداع والابتكار.وإضافة إلى تلك الذكريات هناك ذكريات الآباء عن الوطن الجميل وصحبة الأماجد من الرجال، وذكرياتهم عن بساطة الحياة بأدواتها وبالعلاقات بين أفراد المجتمع التي كانت منضبطة بالأعراف ولا تخلو مجالسهم من ذكرها، لاسيما أمام الأبناء والأحفاد ظناً منهم أنهم يبعثون فيها شريان حياة جديداً ينتفع من فضائله كل من يسمعها.بعد هذا التطور الهائل في مقومات الحياة الحديثة، هل سيبقى للذكريات مكان في النفوس سوى لمسة جمال هي جزء من عمر كل منا؟! وكيف ستكون ذكريات جيل اليوم بعد مئة عام وقد تبدلت القصص والحكايات وأساليبها وتأثيرها؟!* كاتب فلسطيني - كندا
مقالات - اضافات
ذاكرتنا الحاضرة
04-11-2017