عائشة المحمود... وقصص نابضة متألّقة
يفرح كل مُجتمع عندما يولد له كاتب مُتميز، بل ويحتفي به، والقصة القصيرة فن أدبي سردي إبداعي ليس كل من خاض في مجال الأدب يجيده.
قبل فترة وقع بين يدي كتاب جميل وهو مجموعة قصصية للكاتبة الكويتية عائشة عدنان المحمود. في الحقيقة، فرحت عندما رحت أبحر في قصص المجموعة قصة قصة من دون ملل، ولا اضطر إلى أن أخرج من دائرة الورق.
قبل فترة وقع بين يدي كتاب جميل وهو مجموعة قصصية للكاتبة الكويتية عائشة عدنان المحمود. في الحقيقة، فرحت عندما رحت أبحر في قصص المجموعة قصة قصة من دون ملل، ولا اضطر إلى أن أخرج من دائرة الورق.
صدر كتاب عائشة المحمود، أو مجموعتها القصصية، عام 2014 بعنوان {آخر إنذار} عن الدار العربية للعلوم والنشر في بيروت. لكن ما أثار استغرابي أنها صدرت قبل سنوات عدة، لكن للآسف لم تصلنا إلا أخيراً، وهكذا هي الكتب التي تصدر خارج الحدود لا تصلنا إلا متأخرة، أو لا تصل غالباً، وهذا جانب سلبي لا يخدم الأدب المحلي.تضم المجموعة 14 قصة قصيرة، ويبدو أن عائشة المحمود تضع قدميها على ساحة الإبداع في الكويت بجدارة من أول عمل أبداعي لها، فجميع القصص يقدِّم سرداً راقياً يتوافق مع مُتطلبات السرد القصصي سواء من ناحية الأسلوب أو اللغة، أو القضايا النازف بعضها إلى أبعد حد.والكتاب يرسم شخصية الكاتبة بوضوح، ففي بداية كل قصة ثمة مُختصرات، هي أقوال من أعمال أدبية عربية وأجنبية أختيرت بدقة، وحُسن الاختيار لتلك الأقوال دليل واضح لا يقبل الشك في أن عائشة المحمود قارئة جيدة، وتملك ثقافة واطلاعاً واسعاً على ما تُخرجه المطابع ودور النشر محلياً أو عربياً من أعمال سردية، وهذا يُحسب لها.
في البداية يأتي الإهداء إلى الأم، ومن يقرب إليها من العائلة بكلمات مُعبرة، تكتب عائشة بحروف مُختصرة: {تجيء الكتابات معكوسة كما الشخوص الذين نعرفهم... إلى طفلتي.. أمي}، وهذا دليل على الالتصاق بالأسرة التي كانت الضاغط نحو إبداع جميل.لم تخرج الكاتبة عن دائرة الوطن وهي تعطي المُتلقي جو {الوطن- المكان}، فتأتي الجُمل معبرة بدقة في قصة {نصف أمي... سيناريو مُستعاد} كتبت: {البيت الفسيح الذي يحتل رأس الشارع في منطقة الروضة، هذه المنطقة التي تحفظ أزقتها حكاياتي وتشهد ساحتها على طفولتي...}، والكاتب المُتميز هو الذي يرسم المكان بوضوح حتى يترك المُتلقي يبحر في الخيال ويتعايش مع الحدث، وهنا في هذه القصة استطاعت الكاتبة بنجاح لا مثيل له استدراج سيناريو الحوار الدرامي إلى هذا النص، وهذا منحى جديد قد لا تجده في أعمال أخرى من أشكال السرد القصصي.وتعرج عائشة المحمود في قصة {أحاديث قاعات الرخام} لترسم الجوانب الإنسانية في حالات الانفصال بين طرفين في تلك القصة، وإعادة أزمة طلاق يرجعه تاريخ جديد لا يُبرح أن يترك ندوباً وجروحاً مؤلمة في تاريخ حياة إنسانة.وكي تعطي الكاتبة البيئة الكويتية شيئاً من التصور والتوثيق نجد ذلك الجو الرمضاني في الكويت المشحون بالضجيج داخل الأسرة في قصة {آخر إنذار}، وهي استطاعت بجدارة أن ترسم ذلك بدقة في أول يوم رمضاني مع مُبالغة قد تحدث أو لا تحدث.
قصص نازفة
في جانب آخر، نجد الكاتبة تغوص في داخلة إنسانة هي قادمة وهي مغادرة وهي شاهدة على حياة بيت ينبض بالحياة، وكتبت قصة عنوانها مُعبر {زائرة النسيان}، تقول: {رأيتها تستريح إلى جواري، ألوانها الزاهية لم تبهت بعد، مغلفها البلاستيكي الشفيف المُحكم يشي بأنها هدية مُحببة}. وتضيف في فقرة أخرى: {لم أر من قبل أناساً بذلك الجحود}، وتختم القصة بفقرة قد تكشف الجانب المخفي بقولها: {عزيزتي لا تفرحي كثيراً فسترحلين كما رحلت أنا سابقاً، فهم في مطلع كل عام يتخلون عنا، ويستبدلون بنا أخريات}. هنا فهم النهايات قد لا يستصعب على المُتلقي، وقد يترك له خيالات لا أبعاد لها ولا حدود.من تلك القصة وغيرها نجد أن الكاتبة تجيد فن اختيار العنوان، وهي مقدرة قد لا يجيدها كل كاتب، فنقرأ عناوين مُعبرة مبهمة لا تكشف المضمون، من بينها: {حين يبكي السندباد، وزائرة النسيان، وبرائحة التين} وغيرها. كذلك تميزت غالبية النصوص بالبعد عن التقريرية التي تتوافق مع الطرح الصحافي وليس الإبداعي، لهذا تترك الكاتبة المُتلقي يفكر معها بالبدايات وبالنهايات لخيالات تُصنع على الورق تترك.بعد الانتهاء من تصفح كتاب {آخر إنذار} وهو طبعة 2014، جاء السؤال: هل صدرت للكاتبة مجموعة أخرى غير هذه المجموعة؟ لا نعرف، لكن كاتبة بهكذا مقدرة على السرد يفترض ألا تغيب عن ساحة الكتابة فترات طويلة، إذ يكون ذلك غياباً عن القارئ وقد توضع في خانة النسيان.ظاهرة تبشر بخير في العقد الأخير وهي بروز أعمال سردية كثيرة للشباب الكويتي، وثمة أسماء وضعت اسمها في ساحة الإبداع خارج الكويت وداخلها. لكن مع هذا ثمة تجاهل تام من مؤسساتنا الأكاديمية ومن بينها جامعة الكويت، فلا نرى أية دراسات عن هذه الموجة الجديدة في إصدارات تلك المؤسسات. أخيراً، عائشة المحمود وغيرها أسماء جديدة أخذت مكانها في ساحة الإبداع الكويتي يفترض أن تسلط عليها الأضواء من مؤسساتنا الأكاديمية والإعلامية كي لا تكون في خانة النسيان، أو يكون الخيار هو الانسحاب من الساحة.