خارج السرب: الأستاذ أمين وإلياذة سالم وأشياء أخرى
أيام الطفولة وأثناء دراستنا الابتدائية تحديداً كنت أنا وصحبي من نوعية "شاق القاع وقايل امباع"، وكانت المدرسة ميداناً للتشيطن لا يشق لنا فيه غبار، وما بين المناوشات المعهودة التي يشهدها كل فصيل ورعاني مع فصيل آخر إلى الهجوم المظلي على غرفة المرسم، والقيام هناك بجولة تسليحية من الألوان المائية والشينية للخربشة على حائط المدرسة وملابس الطلاب، كان السور الذي يحيط بفصولنا من الخارج هو التفاحة الكبرى لإرهابنا الورعاني آنذاك. كان هذا السور يمتد بطول عشرة أمتار، ويرتفع عن الأرض مترين لأن فصولنا مرتفعة ولا نصل إليها إلا بدرج من ثلاث درجات، وعرض السور كان سنتيمترات محدودات، ويمتد حتى نهاية فصولنا، ثم ينتهي بكوع آخر يمتد لأمتار أخرى إلى جانب الفصول، ويطل على شبه سور أرضي لمزرعة المدرسة التي كانت الصخور تصطف على جنباتها، والمتعة كانت بتسلق السور، الأمر الذي يشبه تسلق الحبال حتى نهايته. وكان الكوع إياه هو الفيصل في شجاعة كل ورع منا، فقلما سلم أحد من السقوط والتحطم على جنبات سور المزرعة، وكان الأمر يستحق المغامرة مرة بعد مرة لولا الأستاذ أمين، وهو أستاذ للغة العربية ومشرف على فصولنا، يحمل عصا أطول منه بكثير يطبق علينا بها سياسة العصا والمجزرة، فكلما هز عصاه تصايح ورعان الكفاح "انج يا فيصل فقد هلك مطلق"، وقلما سلمت خلية من خلايا أجسادنا لذكراها الخلود من أثر نقش هيروغليفي أو سومري للأستاذ أمين.
هنا تاريخ معركة "ذات المقصف" عندما تعارك حمدان مع سلمان، فهب "ذوو ثالثة أول" لنجدته وحمي الوطيس مع "ذوي ثالثة خامس"، وتطايرت أشلاء الأضراس اللبنية على أرض المعركة حتى تدخل الأستاذ أمين، ودفعت عصاه ديات الضحايا من حر "لسبها" ظهراً لبطن، وهنا تم رفع أرجل أخينا سالم على مقصلة الفلقة، وعلى عينك يا تاجر. المدعو سالم هذا طلطل على مدرسة البنات المجاورة بالفرصة فكان القصاص واجباً وقتها، "ولا يسلم سور مدرسة البنات من الأذى حتى يراق على جوانبه أواااه سالم"، وما زلت أذكر كيف تأوه سالم وقتها وبصوت أوبرالي شجي يحسده عليه بافاروتي ذاته، فأوبرا سالم هزت أغصان أشجان الطلاب وأسقطت أوراق حسرتها، وزقزقت الزرازير بعدها حزنا لدموع سلوم، وظلت ذكرى إلياذته تُحكى لشهور طويلة في أروقة البراحات بالدوغة، وفي خدور العذارى. نعود للسور إياه بعد حصار الأستاذ أمين وجدنا الفرصة في انشغاله باجتماعات الإدارة فصار حلم التسلق لدينا يعود لعادته القديمة إلى أن قطع علينا الأستاذ أمين الدرب، وفاجأنا بهجمة تكتيكية غير محسوبة دمرت استراتيجيتنا ونحن نمارس هواياتنا التسلقية أو السلوقية بحسب وجهة نظر أولياء أمورنا، حرنا وقتها وطار صوابنا، فالهاوية من أمامنا وأمين من خلفنا فأين المفر؟ وكان المفر الهاوية طبعا، فقفزنا جماعيا وحصل ما كان متوقعاً، وأخذتنا صخور المزرعة وسورها بالأحضان، وتمددنا على الأرض نعاني سكرات الفلعات، بعد علاجنا تقسمت تركة باقي أجسادنا على عصا الأستاذ أمين، وعصا الناظر والوكيل، ثم أكف والدينا ومن يعز عليهم من أعمامنا وأخوالنا. رغم كل ما سبق من تغريبة طفولتنا، ولكن الشهادة لله الحصص كانت مقدسة لدينا، فالشيطنة كان مجالها خارج الحصة، أما في الحصة ذاتها فلم يكن يسمح لنا عرق المعلم وجهده أن نلعب بذيل ورعتنا، كان المعلم وقتها يحرص على تعلمينا بإخلاص، وكان وقت الحصة غير قابل للنقاش، ندخل إليه بعقل فارغ ونخرج منه بما خف وزنه وغلا ثمنه من غنائم حروف الأبجدية وقواعد الحساب وخلافه. وأذكر حينها أننا كنا نقرأ الجرائد لوالدينا الأميين وبلغة أفضل من مذيعي هذا الزمان، ولا يمكن أن تنتحل الضاد هوية الطاء ولا التاء المفتوحة تختبئ داخل حقائب التاء المربوطة لتمر من جمارك لغتنا، فالمدارس حينها كانت تركز نعم على السلوك، ولكن همها الأكبر كان التعليم ثم التعليم ثم التعليم، وقد نجحت بالاثنين، مع الأسف بعكس مدارسنا الحالية التي تركز على سلوك الطالب وهندامه وقصة شعره ووقت حضوره أكثر من تركيزها على تعليمه، ربما لهذا احتجنا اليوم للدروس الخصوصية، في حين درسنا الخصوصي الوحيد الذي كان متوافرا وقتها هو عصا الأستاذ أمين ومجانا أيضا، وألا ليت أستاذنا أمين يعود يوماً لأبلغه بما فعل التعليم.