المنتَج «الثقافي»
المنظر الغريب الذي نشره موقع تواصل اجتماعي كما يلي: طابور طويل من الفتيات، وأكرر هنا الفتيات، بأعمار المراهقة أو أقل ينتظرن وصول الكاتب الذي أتى بما لم تأتِ به الأوائل وسطَّر لنا إبداعا استثنائيا. يدخل الكاتب مرحّبا بلهجة ناعمة تتماهى مع معجبيه، ويطلب منهم الهدوء، وأنه على استعداد للبقاء في القاعة حتى تطفأ الأنوار، وعلى جمهوره أن يخبر عنه وجوده لثلاث ليالٍ للتوقيع للطوابير التالية من المراهقات. يبدو أن الشباب والذين هم في سن مقاربة للفتيات لا يأبهون كثيرا بالكاتب ولا بكتابته، وهذا يعني أن توافد هذا العدد من المراهقات ليس حباً في القراءة ولا الكتابة، ولا هو الاهتمام بمشروع قرائي، وكل ما في الأمر شراء توقيع الشاب الذي يستمعن إليه في الإذاعة يتحدث بعامية دارجة عن التافه من العلاقات، والذي لا يختلف عن كتابته. ولأن الكاتب نجم جماهيري، فثمن كتابه الذي أمضى سنوات من عمره في البحث والقراءة حول موضوعه تستطيع أن تشتري به الأعمال الكاملة لتولستوي أو ديكنز، تدفعه المراهقة من أجل توقيع النجم على الكتاب، وليس من أجل الكتاب.قلت من قبل وأقول مرة أخرى إنني ضد الرقابة على العمل الكتابي، وضد الحد من نشر كتاب، وإن تلك حرية شخصية للقارئ في اختيار واقتناء ما يريد. وما أناقشه هنا، هو الظاهرة الغامضة، والتي لا أجد لها تفسيرا، سوى تشابه الحال بما يحدث على شبكات التواصل، وارتفاع أسهم التافهين جماهيريا واستغلالهم في الحملات الدعائية للمنتجات الاستهلاكية.
ففي مجتمع يعيش حاليا أكثر من أزمة، وعلى رأس هذه الأزمات الأزمة الثقافية، نرى هذا التمدد الكبير والانتشار الغامض لشخصيات لا تمتلك أي مقومات، وقد أصبحت نماذج لشبابنا وإعلانات مدفوعة الأجر لكل ما هو استهلاكي في حياتنا، دون أن يعي هؤلاء الشباب والفتيات أنهم أدوات دعائية وجزء من هذا المنتج المستهلك، وأنهم يتحولون إلى مادة إعلانية لا إنسانية فيها. الأمر ليس أكثر من إعلان على طريق أوروبي تظهر فيه فتاة بحجمها الطبيعي ترتدي المايوه وتشرب زجاجة كولا بحجمها الطبيعي أيضا. هذا "المنتج" الدعائي الذي تفضله الشركة الراعية، وتستخدمه كإعلان حي، يقابله الكاتب الذي تستخدمه دار النشر وتحوله إلى منتج استهلاكي تطلب منه أن يكتب لنا هراءً لا معنى له، وهي واثقة من أن قيمة ما يكتبه ليس بأهمية ما يدر عليها هذا المنتج. ولا أتصور أن شخصا إعلاميا لا يدرك قيمة ما يكتبه أو لا يمتلك ذائقة مقارنة بين ما يكتبه وما يقرؤه، لكنه يعرف المهمة التي أوكلت إليه ويجيدها، ويدرك أيضا أنها مؤقتة سبقه إليها آخرون وسيعقبه عليها آخرون.لا يقف الأمر عند هذا الحد، فيتطور الأمر، بأن يعلن عن الأنشطة المصاحبة لمعرض الكتاب في الكويت، وضمن العناوين "حلقة نقاشية عن الدراما التلفزيونية يديرها علي نجم". الضيوف المشاركون أهل لهذه الندوة دون شك، لكن من يديرها ليس أحد رجالات الدراما التلفزيونية، وليس ممثلا أو كاتبا أو مخرجا أو منتجا، لكنه "المنتج" الاستهلاكي الذي سيجلب الجمهور المراهق للندوة، كما يتصور منظمو الندوة. بالتأكيد يحق لصاحب الماركة التجارية أن يبحث عن سبل ترويج بضاعته، وله الحق في استغلال النجم الجماهيري، دون البحث عن عمقه الثقافي أو تحصيله العلمي والحضاري، لكن هذا لا ينطبق على من يدير العمل الثقافي أو يشرف عليه، سواء كان مؤسسة رسمية أو غير رسمية. أما بقية الأنشطة المصاحبة للمعرض، فهي بحاجة لوقفة في حينها.