يبدو أن التحالف عبر الأطلسي- الذي أسَّس لعقود من الزمن للاستقرار العالمي، وحَصَّن الديمقراطية، وصان الغرب كما نعرفه- أصبح خاضعا لضغوط شديدة، وبات مهددا بالانهيار إلى الأبد، ولا شك أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب- الذي دأب على تحدي تحالفات أميركا التقليدية، بما في ذلك الهجوم على منظمة حلف شمال الأطلسي- يتحمل قدرا كبيرا من المسؤولية عن هذا التدهور، ولكن أوروبا، من خلال تقاعسها، ساهمت أيضا في بلوغ هذه الحال، والآن يتعين عليها أن تسهم في إصلاحها.

لا شك أن الوعكة التي يمر بها الغرب ناجمة عن تحديات حوكمة الاقتصاد التي لا تزال بلا حل والتي خلقتها العولمة، وتشتد حدة هذه التحديات في الاتحاد الأوروبي، حيث منع الشلل السياسي الحكومات من تنفيذ كامل الإصلاحات اللازمة للتغلب على الأزمة المالية التي اندلعت قبل عشر سنوات.

Ad

يتفق القادة الأوروبيون على أن الهيكل المؤسسي الحالي في منطقة اليورو معيب، وهم يعرفون ماذا يتعين عليهم أن يفعلوا، ولكن تظل آفة الجمود متمكنة منهم، ويقيد الاتجاه المحافظ حركتهم، وتشغلهم السياسة الداخلية، ويسمح العديد من القادة لأنفسهم بالوقوع رهينة للتشكيك الشعبوي في أوروبا، وقد فشلوا نتيجة لهذا في اتخاذ الخطوات اللازمة لضمان استقرار الاتحاد الأوروبي في الأمد البعيد، بما في ذلك الاتحاد المصرفي الكامل لدعم الموارد المالية الأوروبية ونظام حقيقي للحوكمة الاقتصادية على نطاق الاتحاد الأوروبي بالكامل.

بيد أن غياب رئيس أميركي مقنع ومستعد وقادر على تشجيع الاتحاد الأوروبي على إحراز المزيد من التقدم نحو التكامل يجعل الأمور أكثر تعقيدا، ولكن يتعين على القادة الأوروبيين أن يتحملوا المسؤولية عن تصلبهم، وأن يتخذوا التدابير اللازمة لإنقاذ الاتحاد.

الخبر السار هنا هو أن الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي تحسن بشكل ملحوظ منذ صوتت المملكة المتحدة للخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016، الأمر الذي أتاح الفرصة لإحداث إصلاح حقيقي، ولكن نافذة الفرصة لن تظل مفتوحة لفترة طويلة. وحتى الآن فشل قادة الاتحاد الأوروبي في الاستفادة من الدعم المتجدد للمشروع الأوروبي لعرض الحجج الداعمة للتغيير.

هذا لا يعني أن الخطوات الإيجابية غائبة تماما، ففي تناقض مرحب به مع نزوع ترامب الجاهل نحو فرض تدابير الحماية، واصل الاتحاد الأوروبي دفع عجلة التجارة الحرة، من خلال إبرام اتفاقيات تجارية مع كندا واليابان، وفتح المفاوضات مع أستراليا، وكتلة ميركوسور في أميركا اللاتينية، ونيوزيلندا.

ونظرا لقدرة الاتفاقيات التجارية الأوروبية على المساعدة في ضمان اتخاذ نهج أكثر تقدمية في التعامل مع قضية العولمة- وهو أمر بالغ الأهمية لإنقاذها- فإن تكثيف مثل هذه الجهود ضرورة أساسية، ولكن من الأهمية بمكان تحويل التركيز من التجارة الحرة إلى التجارة العادلة، ولا بد أن يكون أداء قادة أوروبا أفضل في التواصل مع المستفيدين المحتملين من اضطلاع الاتحاد الأوروبي بوضع قواعد التجارة العالمية.

وينطبق الأمر نفسه على المجالات الأخرى، حيث يُبدي الاتحاد الأوروبي زعامته القيمة. على سبيل المثال تقود المفوضية الأوروبية الطريق نحو كبح جماح إساءة استخدام انفتاح الحساب الرأسمالي، وبشكل خاص من خلال الحد من التهرب الضريبي من جانب الشركات المتعددة الجنسيات داخل الاتحاد الأوروبي وأماكن أخرى.

وينبغي للقادة الأوروبيين أن يعملوا على إبراز هذه الجهود، فبعد مرور ما يزيد على العام قليلا منذ أكدت أوراق بنما على حجم التهرب الضريبي من قِبَل أثرياء العالم، جاء إطلاق ما يسمى "أوراق الفردوس" ليفضح مرة أخرى أولئك الذين ضخوا مبالغ طائلة من المال إلى ملاذات ضريبية آمنة في الخارج؛ بما في ذلك عدد كبير من الوزراء في حكومة ترامب. والآن حان الوقت لكي يعكف الاتحاد الأوروبي على وضع سجل عام كامل لمالكي الائتمان المستفيدين، في حين يضاعف جهوده في سبيل الإصلاح العالمي.

ومن الخطوات الأخرى الإيجابية التي من المتوقع أن يتخذها الاتحاد الأوروبي هذا الشهر، في إطار قمة غوتنبرغ الاجتماعية، إقرار المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي الدعامة الأوروبية للحقوق الاجتماعية. تركز الدعامة الأوروبية للحقوق الاجتماعية على ضمان تكافؤ الفرص والقدرة على الوصول إلى سوق العمل، وظروف العمل العادلة، والحماية الاجتماعية والإدماج، وهنا أيضا لابد أن تكون الدعاية لهذه الجهود- التي تدحض الادعاءات بأن الاتحاد الأوروبي ليس سوى ناد للنخب الرأسمالية النيوليبرالية- أكثر فعالية.

إذا أخفق الاتحاد الأوروبي في اغتنام الفرصة لتنفيذ الإصلاحات الفعّالة، فقد تستعيد الاتجاهات السياسية غير الليبرالية داخل الكتلة قوتها، وخصوصا إذا سُمِح للدول الأعضاء التي تتحرك بالفعل في هذا الاتجاه- بولندا والمجر على وجه التحديد- بالاستمرار على مسارها الحالي، وخارج حدود الاتحاد الأوروبي، يتعين على قادة الكتلة أن يسارعوا إلى عرض نوع جديد من العلاقات لا يقوم على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف على تركيا، حيث ركز الرئيس رجب طيب أردوغان السلطة السياسية بين يديه.

لا تملك أوروبا أي اختيار سوى التحرك الآن، فعلى نحو شبه يومي، تظهر أدلة جديدة تشير إلى أن ترامب يظل ملتزما بنهج "أميركا أولا"، الذي يتبرأ من دور الولايات المتحدة التقليدي بوصفها المدافع الرئيس عن الديمقراطية الليبرالية. وسيواصل الشعبويون المنتمون إلى اليمين والأنظمة الاستبدادية- في أوروبا وغيرها- مساعيهم الرامية إلى استغلال فراغ الزعامة العالمية الناتج عن انسحاب الولايات المتحدة. والسبيل الوحيد لحماية النظام العالمي الليبرالي هو أن تتقدم قوى أخرى- بدءا بالاتحاد الأوروبي- لشغل الفراغ.

يتعين على قادة العالَم أن يقاوموا ضغوط القَبَلية السياسية القصيرة الأجل وأن يتصدوا للتحديات الجيوسياسية والاقتصادية التي تنتظرهم، وسيفشل الشعبويون وأنصار تدابير الحماية من اليمين واليسار حتما في الوفاء بوعودهم التبسيطية، ولكن لابد أن تكون القوى الوسطية والتقدمية في أوروبا جاهزة ومستعدة.

* جاي فيرهوفستات

* رئيس وزراء بلجيكا الأسبق، ورئيس مجموعة تحالف الليبراليين والديمقراطيين من أجل أوروبا في البرلمان الأوروبي حاليا.

«بروجيكت سنديكيت، 2017» بالاتفاق مع «الجريدة»