«الركادة» مطلوبة الآن
كيف نفهم اليوم السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة الخليجية، ونحن نراقب فوضى تناقضاتها، وعدم استقرارها على بر الأمان، وكأن ما أمامنا ليس سياسة ثابتة مستقرة بل سياسات متناقضة متبدلة تتغير كل يوم، وتظهر تنافراً واضحاً بين الرئيس الأميركي ترامب ووزير خارجيته ريكس تيلرسون، الأول لم يتردد في تأييد ودعم القيادة السعودية في خطواتها الأخيرة تجاه إيران وحزب الله في لبنان، بعد أن اعتبرت السعودية إطلاق صاروخ حوثي بعيد المدى على الرياض بمنزلة عمل حرب من حزب الله وإيران الداعمين الرئيسيين للحوثيين في اليمن، وقد يعني هذا بداية حرب قادمة لا نعرف أين مكانها في المنطقة العربية، سواء كان في لبنان أو في الخليج، بينما يسارع وزير الخارجية الأميركية بتصريح يدعو كل الأطراف إلى احترام الاستقلال اللبناني، والامتناع عن حرب الوكالات في هذا البلد، وهو، لمجرد التذكير، المكان الأفضل عربياً لمثل تلك الحروب، وكان دائماً المنهول المثالي لتصريف مجاري الخلافات العربية والإقليمية، وحربه الأهلية من 75 حتى 90 هي شاهد حزين على هذا.كيف يمكن التعويل على تلك السياسات الأميركية المتنافرة من ذات الإدارة؟ وهل يمكن الوثوق بها لرسم خريطة المستقبل الذي يبدو مظلماً اليوم، بعد سقوط أسعار النفط، وتدمير حركة التغيير للربيع العربي، مثل تلك التناقضات المحيرة في موقف الدولة الأقوى في العالم قد تسقط بعض الضوء لواقع السياسات الأميركية (قبلها الأوروبية) وما أدت إليه من دمار في المنطقة، وتدعونا للتفكير قليلاً بعدم المراهنة المطلقة على الحصان الأميركي، فما أكثر ما دمرت تلك السياسات وارتكبت من أخطاء دفعت شعوب المنطقة ثمنها الغالي! لا حاجة لنبش تاريخ تلك السياسات الأميركية بالمنطقة من التآمر وإجهاض حركة مصدق بإيران في بداية خمسينيات القرن الماضي، ثم التخلي عن حليفها شاه إيران، إلى مساندة الجهاد الأفغاني بأموال ورجال المجاهدين الخليجيين والعرب ضد السوفيات، وتمهيد الأرض لتلك القوى "الجهادية" -الأفغان العرب- للتحول لجماعات القاعدة والدولة الإسلامية وغيرها كناتج عمليات التفريخ الغولي بالحاضنات الأميركية - الخليجية، ثم إلى دعم صدام في مغامرة حرب الخليج الأولى، ثم الانقلاب عليه وإسقاطه بكذبة حيازته لأسلحة الدمار الشامل، بعدما استهلك في تحقيق الغرض الأميركي، وفتح أبواب العراق بعد غزوه للتدخلات الخارجية والإرهاب حين فشلت في إدارة الاحتلال وتركته لمصيره.
قراءة ذلك التاريخ تدعونا إلى التمهل في قراراتنا اليوم، وعدم التسرع في دخول مغامرات سياسية لا نعرف أين ستقود المنطقة، بالتأكيد تعد الولايات المتحدة الحليف الأكبر والأهم بعد الحرب الكونية الثانية لأنظمة دولنا، وما كان لنا مثلاً أن نحلم بتحرير الكويت لولاها، لكن هذا بحد ذاته لا يبرر أن نغمض العين عن كل ما تقرر هذه الدولة العظمى ويمس وجودنا، ليس المطلوب الآن أكثر من بعض الحكمة في إدارة الشأن الخليجي، "الركادة" وفتح أبواب الحوار الهادئ بين دول المنطقة هو الطريق الأسلم للغد، فلنتعظ مما جرى لغيرنا.