«هموم عربية مرئية»!
في مقالنا السابق توقفنا، في عجالة، عند بعض الأفلام، التي أعلنت مشاركتها في مسابقة «المهر القصير»، التي ينظمها مهرجان دبي السينمائي الدولي، وتنطلق مع دورته الرابعة عشرة (6 - 13 ديسمبر 2017)، وقلنا إنها ستتحول إلى مرآة تعكس الوضع الراهن للأمة العربية، وساحة لعرض، ومناقشة، مجمل الإشكاليات الثقافية في عالمنا العربي، وها نحن نؤكد ما قلناه سابقاً، فمن اللاجئين الفلسطينيين، ومآلات القضيّة الفلسطينية، والناجين من الحرب، والمنتفعين من السياسة، والهاربين من الإحباط والاكتئاب، وقسوة الواقع اليومي، والغارقين في الهجرة غير الشرعية، تتواصل الهموم، والإشكاليات، التي يقتحمها صانعو الأفلام القصيرة بفكر ناضج، وقلب جريء، وإحساس صادق، وإرادة مدعومة بموهبة ملحوظة، وهو ما تكشفه المسابقة التي انطلقت في العام 2006، وما زالت تباغتنا بأحدث وأفضل الأفلام القصيرة التي أبدعها العقل العربي. في فيلمه «طريق الذباب الأزرق»، في عرضه العالمي الأول، يأخذنا المخرج السوري بسام شخيص في رحلة مثيرة يكتنفها بعض الغموض مع «إبراهيم»، الصبي الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره، ويعيش في الغابة وحيداً، في انتظار شقيقه التوأم «عبد الله»، ليحمل له كل يوم الماء والطعام، لكنه يقرر ذات يوم التنكّر بزي أخيه، ويغادر الغابة للمرة الأولى سالكاً طريق الذباب الأزرق، وكما هو واضح فالفيلم مليء بالإيماءات والرموز التي يمكن فك طلاسمها عقب طرح الفيلم، الذي سبق لمخرجه المشاركة في المهرجان بفيلمه القصير «فلسطين، صندوق الانتظار للبرتقال»، وهو ما تكرر مع المخرج المغربي المخضرم، والفنان متعدد المواهب، هشام العسري، الذي ينفرد المهرجان بالعرض العالمي الأول لفيلمه «البيداء تعرفني» (طفل يجول بين أزقة وحواري وشوارع الدار البيضاء، حاملاً بين يديه مرآة تعكس صورة أركان العاصمة الاقتصادية الساحقة والصاخبة، ساعياً إلى التقاط روح المدينة)، وأكبر الظن أن الثقة الكبيرة في «العسري» صاحب «هم الكلاب» و{جَوّعْ كلبك» سيكون له أكبر الأثر في انتظار «البيداء تعرفني» بلهفة وترقب!
وكعادة مهرجان دبي السينمائي في التنقيب عن المواهب الجديدة، واكتشافها قبل أن يعرفها أهل بلدها، تحتفي مسابقة هذا العام بالمخرجة المصرية نهى عادل، وفيلمها الروائي القصير «مارشيدير»، في عرضه العالمي الأول، حيث تأخذ قضية المساواة بين الرجل والمرأة، منحى جديداً في معالجة المخرجة، بعيداً عن الشكل التقليدي المتعارف عليه عند تناول هذه القضية (تتقاطع سيارتان في شارع فرعي أحادي الاتجاه، في نهار عمل اعتيادي في القاهرة، ويتشاحن السائقان، وفي ظن السائق الرجل الغاضب أن غريمته المرأة المذعورة ينبغي أن تتراجع، لكنها عنيدة، ترفض التنازل عن حقّها استجابة لإرادة مجتمع يراها الحلقة الأضعف دائماً). «يواصل صانعو الأفلام الذين تُعرض أفلامهم في مسابقة «المُهر القصير» إبهار الجمهور من خلال أعمالهم المبدعة وقصصهم الساحرة، في تأكيد واضح على ثراء الموهبة والخيال في عالمنا العربي»، حقيقة ساقها مسعود أمرالله آل علي، المدير الفني لـ «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، في تعليقه على الأفلام المشاركة في مسابقة «المهر القصير»، ويؤكدها المخرج والكاتب التونسي قيس مجري، الذي يقترب، في فيلمه «السماء تصرخ»، في عرضه العالمي الأول، من أزمة رجل وامرأة على طريق منسية وقصيّة من المدينة، يجدا نفسيهما محاطين بمجموعة من حفّاري القبور الذين يضمرون أسوأ النوايا للمرأة وطفلها الجنين، بينما يؤكدها المخرج الفلسطيني، المُقيم في الأردن، أمين نايفة، للمرة الثالثة في المهرجان، بفيلمه «العبور»، الذي يُعرض للمرة الأولى عالمياً، ويقترب فيه، بحس إنساني واضح، من الشقيقين «شادي» و{مريم»، اللذين يتأهبان بفرح ولهفة للرحلة التي ستنتهي بلقاء جدهما المريض، ورؤية الأهل داخل «الخط الأخضر»، لكن التصاريح الرسمية التي حصل عليها الشقيق الأكبر لدخول الجهة الأخرى من الجدار لا تبدو كافية لعبور الحاجز!زخم من المواهب، وتنوع في الأفكار، وموضوعية في الاختيار، فضلاً عن الحرص الواضح على التمثيل الجغرافي المتوازن، تضعنا حيال صورة حية، وصادقة، لما يعتمل في عالمنا العربي من نمو للإبداع، وتشجيع للمبدعين، وتحفيز على اقتحام مناطق، ثقافية واجتماعية وسياسية بالطبع، كانت تُعد، إلى وقت قريب، من المحظورات، التي لا ينبغي الاقتراب منها، أو كشفها، قبل أن تنهار بفعل صناعة ثقيلة أصبحنا نعرفها باسم «صناعة الأفلام القصيرة»!