خليفة السيستاني لن يكون إلا مستقلاً عن طهران
تنشغل أوساط إقليمية ودولية مؤخراً بمَن سيخلف المرجع الشيعي الأعلى في النجف السيد علي السيستاني، الذي يندر أن تظهر أزمة تخص شيعة العراق والعالم دون أن يرِد ذكره كمركز روحي لديه نفوذ على الملايين، لا يجرؤ قائد أو حزب شيعي على معارضة حصانته التاريخية والدينية. وتتزايد مخاوف المعنيين مع وجود طموحات لبعض الأجنحة الإيرانية في التدخل لتعيين خليفة للمرجع الطاعن في السن، والموصوف بالاعتدال والحذر في مقاربة قضايا الشأن العام.وذكر رجل دين نجفي بارز في تصريحات خاصة لـ«الجريدة»، رافضاً كشف هويته لحساسية هذه الموضوعات في العادة، أن أغلب المحللين يخطئون أثناء تناول هذا الأمر، وخاصة حين توصيف النفوذ الإيراني في النجف، بسبب تجاهلهم لقضيتين؛ الأولى هي أن منصب المرجع الأعلى ليس شخصاً بل «قيادة لمؤسسة حقيقية» تعودت العمل في ظروف معقدة جداً في القرون الثلاثة الأخيرة، وهذا ما يغفله الباحثون والمحللون.
والقضية الثانية أنهم لا يعيرون اهتماماً لقضية أخرى وهي أن النجف كعاصمة روحية للمسلمين الشيعة تأسست في مرحلة ظهورها القوي منذ القرن السابع عشر، بوصفها قراراً من كبار رجال الدين بالاستقلالية عن الدولتين الإيرانية والعثمانية، ولاحقاً لصيانة هذا الاستقلال المالي والسياسي والديني إزاء الأحزاب الحاكمة في العراق والمحيط الإقليمي. ويقول رجل الدين، إن تعيين أي خليفة للسيستاني سيكون بمعايير معقدة يصعب على النظام الإيراني التدخل فيها، «فلم يتمكن صدام حسين ولا آية الله الخميني بكل قوتهما من خرق استقلال الحوزة العلمية في العراق، كما أن أكثر المراجع نفوذاً في المدينة لم يحاولوا اختزال المؤسسة في شخص، وبقيت عوائلهم تحترم ما يشبه مجمع رجال الدين الكبار المؤثرين في صوغ موقع المرجع الأعلى».ونجحت طهران بعد ثورة 1979 وظهور نظام ولاية الفقيه، في التحكم بمرجعية مدينة قم في إيران، لكن القرار الديني في النجف بقي عصياً على الخضوع سواء في عهد صدام حسين المعروف بوحشيته، أو بعد سقوط نظامه الذي شهد تنامياً لنفوذ إيران، وبقيت المدينة العراقية هذه تمتلك النفوذ الأعلى على شيعة العالم، حيث تضم فقهاء من العراق وإيران ولبنان وتركيا والخليج والهند وسواها، وتمكنوا من بناء تقاليد مستقلة يحترمها الجمهور لابتعادها عن الأنظمة الحاكمة في تجربة فريدة.ويقول ساسة عراقيون مقربون إلى المرجعية، إن النجف «تملأ فراغ القوة في لحظات ضعف الدولة وتشعب الانقسامات الطائفية وأزمات المحيط الإقليمي»، وحتى حين يبدو أن النفوذ الإيراني يتصاعد كما حصل مع ظهور تنظيم داعش عام 2014، أو الأزمة مع إقليم كردستان الشهر الماضي، بقيت مرجعية النجف عنصراً فاعلاً يدعم الجناح المعتدل في بغداد لحفظ الحد الأدنى من التوازن بين تدخلات طهران، ورغبات واشنطن، ونفوذ باقي القوى الإقليمية.واتخذ المرجع السيستاني في سياق مناورات معتدلة للأحزاب العراقية حتى غير الشيعية منها، مواقف عديدة ومهمة لكبح جماح الجناح الإيراني المتشدد، ومع ذلك فإن مرشد الثورة في إيران علي خامنئي لم يتجرأ على الاعتراض ولو بالتلميح، رغم أن حركات مسلحة ورجال دين ثانويين موالين لطهران أظهروا مراراً انتقادهم لمواقف النجف التي بدت في أحيان كثيرة منخرطة في رغبة دولية وعربية لتقييد نفوذ إيران.ومن الواضح أن مرجعية النجف تدعو إلى عدم جعل العراق ساحة لتصفيات طائفية داخلياً وإقليمياً، بينما تحاول طهران جعل العراق مسرحاً لعملياتها طوال أكثر من عقد، ومع اقتراب الانتخابات العراقية في مايو المقبل يستند الجناح الشيعي الموصوف بالاعتدال إلى هذه المرجعية في الوقوف بوجه طموحات رئيس الحكومة السابق نوري المالكي وحلفائه في الميليشيات المقربة من طهران، حيث تؤكد الأنباء أن رئيس الحكومة حيدر العبادي سيتحالف مع عوائل دينية بارزة مثل آل الصدر وآل الحكيم وقوى مدنية من كل الطوائف، لتشكيل تيار وسطي يطمح لتشكيل أغلبية برلمانية متصالحة مع المحيط العربي وذات علاقة طيبة مع القوى الدولية.ويعترف رجل الدين البارز بأن مواجهة نفوذ إيران القوي في المنطقة ليست لعبة سهلة «إلا أن هذه ليست مهمة عائلة المرجع السيستاني وحدها، فهناك شبكة من رجال الدين الشيعة الحريصين على استقلال النجف دينياً وسياسياً، تمتد من الهند حتى الخليج والعراق ولبنان، لديها من القوة الروحية والمالية ما يكفي لحفظ استقلال القرار الديني ومنع طهران من مصادرة هذا الموقع».