أكثر ما يُهدّد تماسك الدولة الوطنية هو عملية احتكار السُلطة السياسية التي بالطبع تُمثّل السُلطة الاقتصادية، وهو الأمر الذي يعني تركُز السُلطة والثروة في أيدي القِلة، وما ينتج عن ذلك من محاصصة سياسية مقابل الولاء للأشخاص والتأييد السياسي المطلق، ثم نشوء ما يطلق عليه أستاذ الاقتصاد البارز الراحل د. محمود عبدالفضيل "رأسمالية المحاسيب"، وعندئذ تضعف شيئاً فشيئاً مؤسسات الدولة الوطنية، وتفشل في القيام بوظائفها الاجتماعية والاقتصادية الأساسية، فلا تستطيع حماية أمن الناس وحفظ حقوقهم، وبالتالي تفقد ثقتهم وولاءهم فيبحثون عن هويات فرعية مثل الطائفة والعِرق والعائلة ليحتموا بها ويتعصبوا لها على حساب المواطنة الدستورية، وهنا تبدأ عملية تفكك الدولة التي قد تحدث بصمت أحياناً، وذلك في انتظار اللحظة المناسبة للإعلان عن نفسها.أما الدول الديمقراطية التي تقوم على التعددية السياسية وفصل السلطات والحريات وتداول السلطة التنفيذية فهي دول وطنية قوية ومتماسكة لأنها تستمد شرعيتها من الشعب مصدر السلطات العامة جميعاً، وذلك بعكس الدول غير الديمقراطية التي تُحتكر فيها السُلطة والثروة، وتفتقد الشرعية الشعبية، والنظام الديمقراطي يقرره الناس بمحض إرادتهم الحُرة على شكل دستور مدني توافقي يُحدد طريقة الوصول إلى الحُكم وكيفية ممارسته، وذلك من خلال نظام انتخابي ديمقراطي عادل، وتنظيم مدني وديمقراطي للحياة السياسية، وفي هذا السياق فإن ما يردده بعض الكُتّاب ووسائل الإعلام، عن قصد أحياناً كثيرة، من أن شعوبنا العربية عامة والخليجية خاصة غير جاهزة للديمقراطية، لا يمت للحقيقة بصلة، وأقرب الأدلة إلى ذلك هو الشعب الكويتي الذي بدأ يؤسس لنظامه المدني الديمقراطي قبل أكثر من نصف قرن عندما وضع الدستور، ثم خطا خطوات متقدمة خلال فترة زمنية وجيزة، ولو لم تعترض طريقه قوى متنفذة ورجعية لكانت الكويت الآن بلداً مدنياً ديمقراطياً متطوراً ومتقدماً.
بناء على كل ما سبق، فإن النظام المدني الديمقراطي الحقيقي هو ما تحتاجه الدول العربية دون استثناء، وذلك من أجل تقوية الدولة الوطنية وتماسكها في هذه المرحلة التاريخية المضطربة التي تحمل في طياتها تحديات صعبة ومتشابكة ومُعقّدة تُهدد وجودنا جميعاً وأمننا القومي. أما بالنسبة إلى مجالس الشورى الموجودة في بعض الدول والتي يروّج لها الإعلام الرسمي وجوقة المنافقين على أساس أنها "برلمانات شعبية"! تشارك في ما يُطلقون عليه "البرلمان العربي"، فهي مجرد أجهزة استشارية حكومية لا تمت للديمقراطية ولا للبرلمانات الحقيقية بصلة، حتى لو كان بعضها أو جزء منها أتى عن طريق الانتخاب، فصناديق الاقتراع ليست الديمقراطية التي هي حزمة متكاملة من القيم والمبادئ، بل هي مجرد آلية تنظم عملية الاختيار بين المرشحين.
مقالات
الدولة الوطنية واحتكار السُلطة
22-11-2017